الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في ذكرى رحيله.. محمود حسن إسماعيل شاعر النيل والكوخ.. نشأ بين أحضان الطبيعة المِعطاءة وتعلم في الخص.. روح الثورة حرضته علی الحرية

صدى البلد

اتجه إلی النزعة الرومانسیة والرمزیة فی أدبه وفی شعره، ولجأ إلی الطبیعة فی حیاته الشخصیة والأدبیة، إنه الشاعر الكبير محمود حسن إسماعیل، أحد کبار الشعراء المصریین، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله.

ولد "محمود حسن إسماعيل" فى الثانى من يوليو من عام ١٩١٠ بقرية النخیلة وهى شبه جزيرة بمحافظة أسيوط، تقع فى حضن النيل، وتميزت مثل باقى القرى التى تطل على نهر النيل بجمال الطبيعة وسحرها من نيل ينساب متماوجًا تحت أغصان الشجر يحمل عطره الهواء إلى الجمع الكبير من نخيل سامق متراقص يحكى أسرارًا ويخفى أسرارًا.

بين أحضان هذه الطبيعة المِعطاء، تنفس الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل و عاش طفولته وشبابه الباكر الذى رسّخ لديه معنى التأمل فى الحياة أو الطبيعة من حوله، شاهد هذه الطبيعه الفاتنة وشاهد أيضًا معاناة الفلاح الكادح البسيط الذى يذر الحب ويأخذ الفتات فهو مثلما عاش جمالها فهو عايش همومها وعانى من بؤسها وآلامها، وتلقی تعلیمه الإبتدائي و الثانوي بين مدارس أسيوط و القاهرة، حفظ القرآن الكريم، ثم إنتقل من قريته إلی القاهرة و التحق بكلية دارالعلوم التي كانت حينذاك تسمی "مدرسة دارالعلوم و الآدب " و مقرها القديم فى المبتديان بمنطقة المنيرة و تخرج منها عام ١٩٣٦ م حيث حصل علی الليسانس في العلوم العلیا.

واستقر الراحل فى حى الجيزة وبنى بيتًا بشارع يافع بن يزيد وكان من ضمن أعضاء الندوة اليومية على مقهى محمد عبد الله بميدان الجيزة، المقهى الشهير الذى خرج منه أدباء وساسه وشعراء وفنانين كبار، واكتسب شاعر الكوخ ثقافة واسعة و أتيح له من التجارب ما لم يتح لزملائه.

وأثار شعره الكثير من الجدل، ویعد من رواد الشعراء المُبدعين و کان بطلًا من أبطال الکلمة المعبرة عن الإنسان فی قضایا الحیاة والحریة، وينتمى لمدرسة وجماعة أبوللو الشعرية وعلى رأس قائمة شعراء هذه الجماعة الشعرية.

"محمود حسن إسماعيل"، کبر فی أحضان الثقافة الإسلامیة من خلال رحلاته المتعددة إلی بلدان العالم الإسلامی، و قد اکتسب ثقافة واسعة إثر هذه الرحلات و أتیح له من التجارب، واطلع علی تراث أمته وثقافة عصره.، فقد کان وعاء طیبًا لمفاهیم عصره بالذات و لما کان قبله من معارف وآداب وثقافات.

وأما الملامح الواضحة فی کل دواوینه فهو تلك الروح المصریة الخالصة والتی تعددت صورها وإن کانت تنبثق من بوتقة واحدة والتی أعطت دواوین الشاعر هویة وطنیة وشعریة فی الوقت نفسه.

اهتم الشاعر وبرع فی ملامحه التصویریة إلی التشخیص وتجسید المعنویات والربط بین المعنی المغیب والحسی المشهود، فهو شاعر ریفي جعل شعره فی خدمة الریف، ولهذا سمّی دیوانه الأول "أغانی الکوخ" الذی یعدّ أول ثورة فی الشعر العربی علی الاستعمار والإقطاع فی وقت لم یستطع أحد أن یعبر عن الظلم الفادح الذی یکابده الفلاح المسکین.

عمل الراحل محررًا بالمجمع اللغوي و لم يلبث أن إنتقل مستشارًا ثقافيًا بالإذاعة المصرية و عمل فيها عدة سنوات، و أُحيل إلى التقاعد فى عصر السادات، وواجهته ظروف إضطرته إلى السفر للكويت حيث عمل هناك مدة ثلاثة سنوات ليعمل خبيرًا في مركز بحوث المناهج.

"محمود حسن إسماعيل"، كان شاعرًا ذا إحساس مرهف و عاش ككثير من الفلاحين في فقر وبؤس شديد، كان يحمل تراثه فوق ظهره، و أرضه بين أحاسيسه، وكانت روح الثورة تحرضه علی الحرية لكي يثبت وجوده لأنه إنسان مصري و قد سيطر علیه شعور جارف بضرورة استثمار الشخصية المصرية و توق إلی الحرية و تشبع مستغرق بروح الثورة فإنه قد شارك في قضايا المجتمع الأخری، و دفعه لذلك فساد السياسة و تأزم الاقتصاد و اضطهاد الحرية، مما كان نتيجة مباشرة لتعدد العدوان علی الدستور و تكرر إغلاق البرلمان و تآمر قوی الشر علی كل ما حققه الشعب من مكاسب بثورة1919م، و كانت الملكية الباغية و الاستعمار الطاغي، و الأقطاع المستغل أهم أطراف التآمر الذي وصل إلی ذروته في عهد إسماعيل صدقي 1930 م.

محمود حسن إسماعيل يتحدث عن نشأته: « نشأت في قرية صغيرة في أعماق الصعيد اسمها (النخیلة) و لها من اسمها نصيب فيكثر فيها النخيل و البساتين المطلة علی حافة نهر النيل من الجانب الغربي، و لم أولد في بيت علم و لم أواجه في طفولتي مكتبة تشكل ثقافة مبكرة تعين علی أي معرفة، و أول ما سمعت من اللغة العربية لغة القرآن، و قد حفظته في سن التاسعة و أول ما سمعت من الشعر الأنغام الجنائزية التي كان يتصايح بها المنشدون أمام النعوش، و كنت أضيق بها و أفزع منها، و لهذا هربت إلی معیشة كاملة في الحقل، حيث سمعت من أنغام الطبيعة لغة الطيور التي كانت أول إيقاع موسيقي لم تتدخل فيه صنعة الإنسان، يحرك نفسي إلی الإصغاء لعالم الطبيعة، بكل ما فيه، حتی الجذوع الصامتة و الليل الأخرس، و الوجود المستعبدة البكماء التي تتحرك حولي تحت وطأة القهر و الرق و الحرمان و الطمأنينة الزائفة و بؤس العيش و ذلك في العشرينيات الأولی من هذا القرن و لم أكن في معظم الوقت مع أهلي في الكوخ بل كنت أعيش في الغيط‌ علی مشارف نهر النيل جنوب أبوتيج و قد طال مقامي كجزء من الطبيعة و أبذر الحب و أتابع البذرة منذ غرسها حتی الحصاد، و لا أزال أذكر الغناء البشري الذائب من حناجر الكادحين في مراسم الزرع و الحصاد و كانت كل هذه العوالم أشبه بمرجل انصهرت في داخله كل العناصر الترابية التي انفصلت عنها بإضاءة الشعر عندما بدأت أتنفس به، عقب فراقي لعالم القرية و الطبيعة إلی عالم المدينة».

وعن كيفية تعمله يقول: «تعلمت في الخص و درست فيه و تقدمت إلی امتحان شهادة "البكالوريا" من الخارج، و حصلت علیها، نظام دارالعلوم، ثم رحلت إلی القاهرة لأدخل دار العلوم، كنت أقرأ في "الخص" الصحف و خاصة "البلاغ الأسبوعي" و هو الملحق الأدبي الذي كانت تصدره أسبوعيا جريدة البلاغ، كانت هذه الصحف تأتي إلی "الباشا " صاحب الضيعة المجاورة لحقلنا، كان واحد يعمل عند الباشا اسمه "فريد" يذهب كل يوم إلی مكتب البريد لإحضار بريد الباشا و فيه الجرائد و المجلات، و كان "فريد" يمر بي فأتصفح بعض ما يحمل، آخذ منه البلاغ الاسبوعي لأقرأه في يوم أو يومين قبل أن يوصل إلی الباشا، لم تكن لدي في الخص أية كتب غير الكتب المدرسیة، و لم أقرأ شعرًا غیر المحفوظات المقررة، و من هذه المحفوظات بدأ رفضي لكل مكرر و تعبير زائف».

ويقول الشاعر عن بزوغ ميزته الشعریة: « ولم تترك طفولتي في الصعيد بصمات علی حياتي كشاعر فحسب بل كانت هي السر الذي اندلعت منه حياتي الشعرية، فهي لم تكن طفولة فقط بل كانت امتدادًا منذ مولدي بالقرية إلی أن نزلت المدينة و قهرني فن الشعر علی التفجر قبل انتهاء مدة الدراسة العلیا بصدور ديواني الأول "أغاني الكوخ"، ذلك أني عشت القرية بروحي و جسدي متوغلًا في دخانها و ترابها و في جميع أجزائها و رأيت الإنسان فيها أذل من سائمته كما يقودها يقاد و كما يطعمها يطعم و رأيت المجتمع كله يتعاور علی أعتاب حفنة من السادة و لا أستطيع تفسير شحنة العذاب و القلق و الرفض التي كنت أحملها كما فسرتها "أنغام الكوخ"، و "هكذا أغني"، و"أين المفر" و سائر الدواوين والأشعار التي نشرت بعد ذلك، و كان ديواني الأول "أغاني الكوخ" يمثل إحساسي بالرفض لعالم القرية الذي يخيم علیه الرق و المسكنة و التجبر و المغايرة الشنيعة بين إنسان و آخر في كل شيء و التناقض بين طرفي الإنسان: إنسان في الهلاك من الذل و الحرمان والآخر يكاد يهلك من البطنة و الترف و الاستعلاء الجائر، و من خلال هذا المناخ تولدت أحاسيسي الأولی نحو فلسفة الوجود و موقفي الملتزم بالطبيعة بفلسفتي الخاصة، ترفض هذه الفلسفة أول ما ترفض رق الوجود و المسافات المضروبة بين الناس بدون عدل و تقدس الحرية التي لا تشكل قيدًا علی نفسها».