الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هولندا / سبينوزا / نجيب محفوظ / فرج فودة "٢"


قلنا لم تكن أوروبا في العصور الوسطى كالآن، بل كانت تنتشر فيها الخرافات التي لن تصدقها، فلا يوجد أي مقارنة من أي نوع لأوروبا الآن وأوروبا في العصور الوسطى. ولم يكن يمكن لأوروبا أن تصل إلى ما وصلت إليه إلا بفضل ما تحصلت عليه من فلاسفة وأدباء ومثقفين أحيوا العقل وجعلوه في تلك المكانة التي أرادها له الله سبحانه و تعالى قائدا للحياة.

ولم تكن البيئة الاجتماعية ولا السياسية ولا الدينية لتسمح هكذا بسهولة لهؤلاء الفلاسفة والعلماء والكتاب بأن ينشروا أفكارهم ونظرياتهم ومبادئهم العقلية لتصبح منهج تفكير وأسلوب حياة، بل كانت كل فئة من فئات المجتمع تعمل على الإبقاء على مصالحها! وخاصة فئة رجال الدين التي دائما ما ترتبط بفئة رجال الحكم والسياسة برباط عضوي! ففي وجود الأولى وجود للأخرى والعكس بالعكس.

فوجدنا رجال الدين يؤلبون رجال الحكم على الفلاسفة والمفكرين الذين حملوا معولا مصممين على هدم ما رأوا أنه لا يتفق مع العقل لإدراكهم أن الخرافة المقدسة نتيجة كونها مستندة على قداسة دينية هي أخطر ما يواجه المجتمع وأكثر ما يصد العقل عن الاستمرار في حالة الوعي! فوجدنا رجال الدين - على سبيل المثال - بفرنسا ينجحون في الزج بالفيلسوف "دنيس ديدرو" وهو فيلسوف من فلاسفة عصر التنوير ومن قادة حركة التنوير في فرنسا في السجن بعدما أصدر قصته رسالة العميان، ولقد لقى في السجن كل أنواع التنكيل والتعذيب! ولم يخرج منه إلا بعد أن قام بالتوقيع على تعهد بألا يعود إلى كتابة موضوعات من مثل تلك الرسالة!.

ودنيس ديدرو هو صاحب أول موسوعة في التاريخ الحديث وهي موسوعة "الإنسيكلوبيدي" التي كانت في ذلك العصر – نهاية القرن الثامن عشر- بمثابة محرك البحث جوجل في عصرنا الراهن، حيث كانت تشتمل على كل ضروب وأنواع المعرفة! والتي ما أن علم رجال الدين بأنه يعمل على الانتهاء من هذا العمل الثقافي الهائل، إلا وتواصلوا مع القصر الملكي لمنع ديدرو من استكمال هذا العمل! بزعم أنه يسيء للدين، فما كان من الحكومة إلا أن أصدرت أمرا بعدم طباعة الموسوعة في فرنسا! وهنا كانت ضربة قاصمة لفريق عمل الموسوعة والذين كان من بينهم الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير والذي طلب من ديدرو عدم استكمال الموسوعة ورفض الاستمرار في المشاركة في العمل الكبير! وكان هذا يمثل نوعا من انفراط عقد فريق الفلاسفة! 

وعلى كل حال لم تنجح كل تلك المحاولات التي قام بها رجال الدين ورجال الحكم. فاستمر ديدرو في عمله سرا، ولجأ إلى حيلة طبع من خلالها الموسوعة في بلجيكا! حيث إن القرار الذي أصدرته الحكومة الفرنسية كان عدم الطبع في الأراضي الفرنسية.

كان ديدرو متأثرا بفيلسوف كبير عاش قبله بحوالي قرن من الزمان وهو الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (بالهولندية: Baruch Spinoza) والذي يعد من أهم فلاسفة القرن السابع عشر والذي ولد في 24 في عام 1632م في أمستردام، بهولندا، لعائلة برتغالية من أصل يهودي تنتمي إلى طائفة المارنيين. فقد كان والداه يهوديين هاجرا من البرتغال. حيث اضطر كثير من يهود شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا والبرتغال) - في ذلك العصر - إلى الهجرة لعدد من دول غرب أوروبا هروبًا من اضطهاد السلطات هناك. 

وفي البداية اضطر هؤلاء اليهود إلى اعتناق المسيحية، كنوع من التقية، أما بعد أن وجدوا مناخًا متسامحًا في هولندا فقد عادوا مرة أخرى إلى اليهودية. كان والد سبينوزا تاجرا ناجحًا في أمستردام، ولكنه كان متعصبا للدين اليهودي ولذلك فبالإضافة إلى تجارته تولى كثيرًا من المناصب الدينية في المجتمع اليهودي هناك، بل وعددًا من المهام التدريسية المنصبة على تعاليم التلمود.

كانت الأسرة تمني النفس أن يصبح الابن أحد رجال الدين اليهودي! واستبشروا خيرا في أن يصبح أحد المدافعين بقوة عن تاريخ الدين اليهودي خاصة بعدما أظهر نبوغا شديدا ولذلك تبناه وقام على تربيته وإعداده أحد رجال الدين.

ولكن الفتى سلك طريقا آخر أقض به مضجع رجال الدين اليهودي! الذين حاولوا إعادته إلى "جادة الصواب" مرة بالترغيب وأخرى بالترهيب، ولكنهم فشلوا في جميع الأحوال فما كان منهم في نهاية المطاف إلا أن - في يوم 26 من يوليوز سنة 1656 - أصدر مجلس اليهود الأعلى بأمستردام تصريحًا بنفي سبينوزا، وفي 27 يوليو من نفس السنة، أصدر الكنيس اليهودي أمر الحرمان الكنسي والطرد من المجتمع اليهودي، المسمى بـ”חרם“ أو ”herem“ وهو أشد أشكال الإقصاء من المجتمع اليهودي. 

وقال الكنيس في أمر الحرمان:

”اللعنة عليه، اللعنة عليه في الصباح والمساء، اللعنة عليه في دخوله وخروجه، اللعنة عليه إلى الأبد، فليمسح اسمه من هذا العالم، وليجعل الإله منه معزولا عن اليهود، ولينزل عليه كل اللعنات… وأنتم الذين تعلمون الإله وتعرفونه، اعلموا أنه يحرم عليكم أي علاقة به، لا كتابية ولا كلامية، لا يقدم له أحد خدمة ولا يقترب منه أحد أكثر من أربعة أمتار، لا يجالسه ولا يكون معه تحت نفس السقيفة، ولا أحد يقرأ كتاباته…“
يتبع ...
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط