الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

وداعا دكتور عبدالله المصرى


كنت أحادثه حتى الساعة الثانية صباح أمس الجمعة، تهنئةً بحلول العام الهجري الجديد، داعين وراجين من المولى لبعضنا، أن يجعل عامنا الهجرى الجديد فاتحة خير وسرور وسعادة على الامة الإسلامية، وأن يكتب لنا فيه أجمل الاقدار وأسعد الأوقات وصلاح الحال، ثم استيقظت لصلاة الجمعة، وإذا بصديق حميم لى يخبرنى أنه مات صباحا، وصلاة الجنازة عليه بمسجد عمرو بن العاص، بعد صلاة الجمعة، وإذا بالخبر ينزل علىّ كالصاعقة، نعم، مات الدكتور عبدالله المصرى مؤرخ جامع عمرو بن العاص، الباحث الاسلامى والكاتب الصحفى القدير، مات من كانت همته أوسع مدى من عمره، بحسابات الزمن المحدود، لا بحسابات زمن الخلود.
أكتب الآن راثيا أخى الأكبر وأستاذى المعلم الدكتور عبدالله المصري مؤرخ جامع عمرو بن العاص ، وها هو ذا فؤادى يبكى جزعا على فراقه، قبل سكب دموع مقلتيَّ، ومداد كلماتي، إذ كان له أياد بيضاء علىّ، فكان بحكم كونه جارى يلتمس فىّ الابن، فكان أول من أخذ بيدي في بداية مسيرتي العملية الصحفية في منتصف تسعينيات القرن الماضي، فعملت معه بجريدة "العمال" محررا أخوض غمار التجارب الصحفية القاسية، وهو في ظهري وبكتفي، يشجعني، ويقوّمنى، ويمدني بالمصادر الصحفية المتجددة، ويعرفني على مجتمعات وأناس لم يكن لى سابق معرفة أو خبرة بالتعامل معهم، حتى أثبتت نفسى،بحمد الله وتوفيقه، وصرت صحفيا يمتلك ناصية مهنته الشاقة، كما كان يستعين بى دائما مديرا لتحرير العديد من المجلات والجرائد معه، وبعد أن صرت رئيسا لتحرير عدد من الجرائد المستقلة سابقا، كنت أستعين به مستشارا للتحرير، فكان نعم المعلم والمهنى المستشار.
مات من كان تعرف المروءة في مواقفه، وترى الرجولة في تصرفاته ممزوجة بالمودة والتواضع، ومن نصائحه التي لا أنساها أبدا قوله لى:" تعبك من الصحافة ليس مالا فقط"، وبالفعل، ما أكرمنى الله به في خلال خمسة وعشرين عاما من خبرات واكتساب معارف وتجارب ومصادر صحفية -قامة وقيمة- جعلتنى أدرك وأوقن بصدق نصيحته لى.
نعم، مات الدكتور عبدالله المصري الانسان الطيب الشهم ابن البلد المعطاء، دمث الأخلاق، العالم النابه، الباحث الإسلامي، الكاتب الصحفي القدير، متعدد المواهب، الذى تشربت روحه وفؤاده بعشق جامع عمرو بن العاص منذ أن كان صغيرا، ولما لا وقد ولد بالفسطاط بجوار الجامع بمصر القديمة بالقاهرة، وكان رحمه الله محبا وعاشقا للعلم والعلماء، مكافحا في سبيل العلم يلتمس خطاه وأثره أيا كان، فترجم هذا العشق فحصل على ليسانس أداب القاهرة قسم تاريخ، ثم ماجستير في التاريخ الإسلامي عن تاريخ الجامع ذاته بعنوان: "دور جامع عمرو بن العاص في الحياة الثقافية في مصر حتى نهاية الدولة الاخشيدية" بتقدير امتياز، ثم دكتوراه في فلسفة التاريخ الإسلامي من آداب طنطا بعنوان " دور جامع عمرو بن العاص في عصر الفاطميين والأيوبيين" بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، وعمره واحد وستون عاما.
كان لى شرف محاورته -رحمه الله- عبر حوار صحفى مطول لجريدة "الأهرام التعاونى" في ذكرى بناء مسجد عمرو بن العاص الـ 1419 هـ، ذكر لى فيه سر ارتباطه بهذا الجامع قائلا:ارتبطت بالجامع منذ نعومة أظافري، عندما كان يصحبنى والدي رحمه الله معه للصلاة فيه، وخاصة صلاة الجمعة، ثم استذكار دروسى في صحنه تحت أشعة الشمس الدافئة، وإيوان القبلة في الصيف، وهى عادة لجميع الطلاب الذين كانوا يسكنون حوله، ثم بدأت العمل الاجتماعى بالجامع على يد الشيخ محمد الغزالى -رحمه الله- بعد أن أسس فصول التقوية المجانية، وكنت مدرسا لمادة التاريخ في المرحلتين الإعدادية والثانوية، ثم عضوا بلجنة زكاة الجامع، ومن المؤسسين لها عندما أسسها الشيخ عبد الحميد رضوان -رحمه الله-، ثم عضوا بمجلس إدارته عندما أسسه ورأسه الدكتور إسماعيل الدفتار -رحمه الله-، وما من خطيب اعتلى منبره إلا وكنت في استقباله.
ألف العديد من الكتب حول جامع عمرو بن العاص تأريخا له ولخطبائه المتوالين عليه، حتى أطلق عليه الدكتور عبدالصبور شاهين لقب مؤرخ جامع عمرو بن العاص، وأكده من بعده الدكتور إسماعيل الدفتار رحمهم الله جميعا، وعن حبه وعشقه وتأريخه لجامع عمرو بن العاص، ذكر لى -رحمه الله-: أسفت كثيرا عندما قرأت في تاريخ جامع عمرو، ورأيت أن الإمام الليث بن سعد كان طالبا في جامعة جامع عمرو، ثم تخرج فيها وأصبح عالما كبيرا وفقيها متفردا في مصر والعالم الإسلامي، وكان يناظر الإمام مالك، وكاد يكون صاحب مذهب خامس في الإسلام، وكان مفسرا للقرآن وشاعرا أيضا ومؤرخا وناثرا وله كتب كثيرة، ولكنها للأسف ضاعت بسبب اهمال تلاميذه لها، حتى أن الامام الشافعى كان يقول عنه: "كان الليث أفقه من مالك إلا أن ضيعه أصحابه"، لهذا كله قطعت عهدا على نفسى بأن أحافظ على تراث علماء جامع عمرو بن العاص الخطباء، فقمت بإعداد 14 كتابا من خطب الدكتور شاهين، و3 كتب للدكتور الدفتار، وكتاب للدكتور احمد عمر هاشم ، وكتاب للدكتور محمد العريفى، وغيرها من الكتب الأخرى.
كان الدكتور عبد الله إبراهيم حسن المصرى، الكاتب الصحفى والباحث الإسلامي والتاريخى -رحمه الله- عالما ومتعلما في آن واحد، يعلم غيره محتسبا أجره ابتغاء وجه الله، ويتعلم من كبار العلماء الذى عاصرهم بجامع عمرو بن العاص، فنراه قد تأثر بالشيخ الغزالى الذى تعلم منه حب جامع عمرو بن العاص، واحترامه لكل العلماء، والشيخ عبد الحميد رضوان الذى كان مخلصا للدعوة و للجامع وربى جيله، والدكتور عبدالصبور شاهين استاذه الذى تعلم منه المحافظة على الجامع ومشتملاته، والدكتور الدفتار الذى تأثر بحكمته وحبه للجامع ومهارة العمل الادارى حتى أضحى الجامع مؤسسة اجتماعية كبرى لها تأثيرها في الوسط المحيط.
كما حاز المرحوم الدكتور عبدالله المصرى عضويتهبنقابة الصحفيين، وباتحاد الكتاب، ورابطة الأدب الإسلامي العالمى، واتحاد المؤرخين العرب، والجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وجمعية الدراسات الإسلامية، ومجلس إدارة جامع عمرو بن العاص والمتحدث الرسمي باسم المجلس، هذا الى جانب كونه كاتبا بالعديد من الجرائد والمجلات والمواقع الالكترونية المختلفة، ومنها كونه كاتبا من كتّاب ساحة الرأي بصدى البلد.
وها هو ذا يلبى نداء ربه، تاركنا، مسرعا إليه سبحانه، ولا نملك إلا التصديق والايمان بقضائك وقدرك ياربنا، ليصلى عليه في مسجد عمرو بن العاص، الذى ارتبط بوجدانه وعقله وفؤاده طول عمره، وليكون آخر منازله في الدنيا، ثم ليوارى جسده في مقابر نفيسة العلم، وحبيبة المصريين، السيدة نفيسة، فجزى الله خيرا فقيدنا وعالمنا جزاء ما قدم، وندعوك ربنا أن تتقبله بما يليق بك كرما وإحسانا، معترفين لك أن البدء منك، والمنتهى إليك، فارحم اللهم أحزان أهله وذويه ومحبيه، وألهمنا الصبر والسلوان، والرضا بالتسليم لك، واجمعنا معه في فردوسك الأعلى، وشرفنا وإياه بالنظر لوجهك الكريم.. ولا نقول إلا ما يرضى ربنا "إنا لله وإنا إليه راجعون".
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط