

لم يكن من اليسير أبدًا أمامنا البحث بعد تعاقب سنوات عن "شهود العصر" لنقل تاريخ حي واضح، غاب عن أجيال كثيرة لم يُتح أمامها مرجعًا مُفصلًا تطل من خلال نافذته على تلك الحقبة الزمنية المُضيئة من تاريخ الطيران المصري، حينما كان مجالنا الجوي يشمل الأراضي المصرية ومياهها الإقليمية وجزء كبير من مجال البحرين المتوسط والأحمر وأيضا أجزاء كثيرة من الأجواء السعودية حتى مدينة حائل وصولا إلى دولة البحرين.

لم تكن السعودية وحدها، التي علمتها مصر قواعد المراقبة الجوية، أيضا كثيرا من البلدان العربية ودول الخليج، ففي عام 1978م طلبت هيئة الطيران المدني اليمنية "القاضي"، خبيرًا ومدرسًا للمراقبة الجوية لتأهيل الكوادر اليمنية التي كانت قد تلقت تدريبها في معهد إمبابة بالقاهرة بأن يستكمل معهم التدريب بمطار صنعاء، وظل هناك مدة ثلاث سنوات ساهم خلالها في إنشاء المعهد الوطني للتدريب على الطيران المدني بصنعاء وأشرف على التدريس به، وساهم في تطويرات مطاري الحديدة والحزم، فضلا عن أنه وضع أسس التنسيق بين المراقبة الجوية باليمن وأقاليمها المجاورة، في ذلك الوقت أيضا، كان زملاءه في ليبيا يساعدون الليبيين فى المراقبة الجوية، لعمل المجال الجوي الليبي والانفصال عن المجال الجوي لمالطا التى كانت تشرف عليه فى ذلك الوقت .

حينها لم يستطع "القاضي" رد رسالة رئيسه بالعمل، الذي خاطب وطنيته، قائلا "ياريت ترجع وتخلي الوطن أهمية أولي عن الأهمية الشخصية بتاعتك"، ليرد بحماسه "فورا عدت ماكنتش أقدر أتأخر".

"لكن رغم ظروف العمل الصعبة، كان وضعنا أفضل من دول كثيرة، لم تكن تعرف شيئًا عن المراقبة الجوية إلا من خلالنا، وحينها كان هناك متسع من المجال الجوي التي تشرف على إدارته مصر بمراقبيها حتى جاءت حرب 1967 "النكسة"، وفقدنا جزءا كبيرا من مجالنا الجوي ناحية الشرق، تحديدا فوق سيناء وأعيد رسم المجال الجوي دونها".. وبصوت متألم منخفض ردد "كان ذلك أصعب وقت حينما رسمنا سماء سيناء ضمن أجواءنا المحرمة.. وأصبحت طرقنا الجوية منكمشة دونها، حتى جاءت حرب 1973 م وعادت من جديد".

دخول الردارات قطاع الطيران المدني الذي كان له وضعه وهيبته أيضًا حينها، شكل طفرة كبيرة وأسدال الستار على صعوبات جسيمة كانت تواجه رجال المراقبة الجوية حينما كان العمل إجرائيًا دون شاشات رادار يرى المراقب من خلالها عمله، فيذكر "القاضي"، أن من أصعب اللحظات التي واجهتهم كان التعامل مع الطائرات الروسية إبان فترة السبعينات أثناء حرب أكتوبر، حيث كان الطيارون الروس يتلقون الأوامر باللغة الروسية وليس الانجليزية، كنا نواجه صعوبة في التعامل معهم حيث كانوا لا يفهمون الانجليزية وكانوا يعجزون عن فهم الرسالة الموجهة لهم من المراقبين ونتفاجئ بهم يدخول من جهة مغايرة كانت من الممكن حينها أن تسبب كوراث، فكان عدم وجود نظام يرصد الحركة كان أمر في غاية الصعوبة ولكن الكفاءات الموجودة كانت على قدر المسئولية.
ويذكر ضاحكًا أيضًا، أن أطرف المواقف التي مرت عليه، أثناء عمله بالمراقبة الجوية في فترة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حينما تلقى إشارة من رئاسة الجمهورية بأن الرئيس عبدالناصر يعطي تحيه للملك حسين وطائرته في الأجواء المصرية، "تحدثت مع قائد الطائرة الملكية الأردنية وأخبرته أنه لدى رسالة لجلالة الملك حسين من الرئيس عبدالناصر، إذ بجلالة الملك هو قائد الطائرة، يرد قائلا:"اتفضل أنا الحسين.. الحسين يتكلم".. أصابتني الدهشة حينها، ثم أعتدت على الأمر، فدائما كان الملك حسين يقود الطائرة بنفسه".

"شهود العصر"، الذين سجلوا تاريخ الطيران المدني المصري في مدة تصل إلى 8 سنوات من عام 1988م حتى 1995م، - وكان كابتن ثروت القاضي أحد المشاركين في كتابة هذا التاريخ -، قالوا إنه وجد في مصر رسوم متحركة للأجنحة على كثير من الآثار القديمة التي يرجع عهدها إلى آلاف السنين، بالإضافة إلى تمثال محفوظ داخل المتحف المصري بالقاهرة، "نفرتوم" المجنح المصنوع من البرونز نموذجا صغيرا من خشب الجميز لطائرة شراعية لا محرك لها، وهو يمثل أقدم أثر ملموس يؤكد أن مصريا اسمه "بادي إيمن" عاش قبل 2200 سنة في منطقة سقارة وكان يهوى الطيران، اكتشفه عالم فرنسي في القرن الماضي من الزمان، وسجله حينها على أنه "طير"، فلم تكن الطائرات قد عرفت في ذلك الوقت، لذا عذره العالم في خطأ التسجيل.

وبفخر، عبر عن إعجابه بما أصبح عليه وضع الطيران المدني المصري الآن، وأنه أصبح يضاهي أكبر دول العالم بتقدمه التكنولوجي في كل شئ سواء داخل المطارات أو بالمنظومة كلها.
واختتم "القاضي"، لقاءه معنا، برسالة وجهها إلى تلاميذ تلاميذه من رجال المراقبة الجوية، الذين يحملون على عاتقهم مسئولية كبيرة تجاه بلدهم الآن، قائلا:" اعملوا أكثر من أي شئ في الحياة.. أعلم أن تواجهكم صعوبات.. ولكننا من قبلكم صنعنا التاريخ بملاليم".
