الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

شاهد على العصر..ثروت القاضي لـ صدى البلد: الفراعنة أصحاب أول تجربة طيران وليس ابن فرناس وبالدليل..ولهذا أخفيت هويتي عن الإنجليز وخطاب كان سببا لعودتي من اليمن..وهذه رسالتي لأحفادي المراقبين الجويين

كابتن ثروت القاضي
كابتن ثروت القاضي ومحررة صدى البلد

قبل اللقاء طلب منا أن نمهله عدة ساعات، تكفي أن يرتب فيها أوراقه التي دونها على مدار سنوات طويلة، فور وصولنا عند الباب استقبلنا بوجه مبُتسم وأذن لنا بالدخول مُرحبًا بتفرغه هذه الليلة لنا، هناك ناحية اليمين مكتبة زجاجية صغيرة قائمة، تستقر قواعدها على الأرض تحوي بداخلها أكثر الكتب نُدرة وثراءً في تاريخ الطيران المدني المصري، الذي هو أحد الشهود على عصوره المختلفة، بدأها مع أوائل فترة الستينيات حتى نهاية التسعينيات.


في حضرة أحفاده جلس الجد كابتن "ثروت القاضي" بين الأوراق المتناثرة حوله، يستدعي الماضي متباهيًا بما استطاع تحقيقه هو وجيله من إنجازات، كانت جديرة بأن تضاف إلى دفاتر التاريخ، مُفتخرًا أنه ورجال عصره ممن عملوا في الطيران المدني إبان فترة الستينيات وما قبلها، نجحوا في تسجيل مجلدات تحكي هذا التاريخ منذ النشأة حتى مشارف الألفينات.

لم يكن من اليسير أبدًا أمامنا البحث بعد تعاقب سنوات عن "شهود العصر" لنقل تاريخ حي واضح، غاب عن أجيال كثيرة لم يُتح أمامها مرجعًا مُفصلًا تطل من خلال نافذته على تلك الحقبة الزمنية المُضيئة من تاريخ الطيران المصري، حينما كان مجالنا الجوي يشمل الأراضي المصرية ومياهها الإقليمية وجزء كبير من مجال البحرين المتوسط والأحمر وأيضا أجزاء كثيرة من الأجواء السعودية حتى مدينة حائل وصولا إلى دولة البحرين.

"حتى منتصف الستينيات، كان المراقبون الجويون المصريون يديرون الحركة الجوية داخل الأجواء السعودية عندما كانت لاسلكية قبل دخول الرادارات، في الوقت الذي لم يوجد لدى المملكة مراقبون جويون يستطيعون تولى زمام أمور مجالهم الجوي، حمل المراقبون المصريون على عاتقهم هذه المهمة ودربوا السعوديين أيضًا لسنوات في القاهرة، حتى تدبروا أمرهم عام 1964م، أعقبها رسم المجال الجوي السعودي وسمى آنذاك مجال جدة الجوي".

لم تكن السعودية وحدها، التي علمتها مصر قواعد المراقبة الجوية، أيضا كثيرا من البلدان العربية ودول الخليج، ففي عام 1978م طلبت هيئة الطيران المدني اليمنية "القاضي"، خبيرًا ومدرسًا للمراقبة الجوية لتأهيل الكوادر اليمنية التي كانت قد تلقت تدريبها في معهد إمبابة بالقاهرة بأن يستكمل معهم التدريب بمطار صنعاء، وظل هناك مدة ثلاث سنوات ساهم خلالها في إنشاء المعهد الوطني للتدريب على الطيران المدني بصنعاء وأشرف على التدريس به، وساهم في تطويرات مطاري الحديدة والحزم، فضلا عن أنه وضع أسس التنسيق بين المراقبة الجوية باليمن وأقاليمها المجاورة، في ذلك الوقت أيضا، كان زملاءه في ليبيا يساعدون الليبيين فى المراقبة الجوية، لعمل المجال الجوي الليبي والانفصال عن المجال الجوي لمالطا التى كانت تشرف عليه فى ذلك الوقت .

ورغم ما أضافه "القاضي" ورفاق جيله لقطاع الطيران في بلدان عربية شقيقة، إلا أنه كان لمصر النصيب الأعظم من خبرة السنوات التي جمعها من الدراسة والعمل بين الداخل والخارج في المراقبة الجوية، منذ بداية التحاقه بالعمل بها عام 1961م واستطاع خلالها أن يتدرج في كثير من المناصب، بدأها بـ "ضابط مراقبة جوية ثم مسئول مراقبة المنطقة، ثم مدربا بمعهد إمبابة للتدريب والتي أعير بعدها خبيرًا في اليمن، والتي انتهت علاقته بها آنذاك في أوائل الثمانينات، بعد رسالة من رئيسه بالإدارة المركزية للمراقبة الجوية المصرية كان يدعى كابتن "خطاب"، يطلب فيها عودته إلى الوطن للبدء في أعمال إدخال الرادار والحاسبات الآلية مطار القاهرة.

حينها لم يستطع "القاضي" رد رسالة رئيسه بالعمل، الذي خاطب وطنيته، قائلا "ياريت ترجع وتخلي الوطن أهمية أولي عن الأهمية الشخصية بتاعتك"، ليرد بحماسه "فورا عدت ماكنتش أقدر أتأخر".

عاد "استاذ المراقبة الجوية" إلى القاهرة متلهفًا ليكون مساهمًا في بداية عصر جديد من تاريخ الطيران المدني المصرية بدخول تلك الرادارات، التي أعد نفسه لها كثيرًا وكان يحلم بإدخالها مصر منذ زمن، ليذكر مُبتسمًا:" كنت أول مصري حصل على شهادة المراقبة الرادارية من انجلترا في أوائل السبعينات أيام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأثناء فترة دراستي هناك أخفيت هويتي عنهم كوني استاذاً بمعهد إمبابة وأخبرتهم أني مراقب جوي خريج كلية الآداب قسم جغرافيا، حينها كانت الظروف تحتم ذلك حيث كانوا يتربصون بالمصريين وكل من ذهب قبلي لم يستطع الحصول على هذه الشهادة لتعمدهم إخفاقه، فحصلت على أعلى الدرجات بنسبة 98%، وتعجبوا من نتيجتي أني مجرد دارس ولكني لم أخبرهم، وعدت إلى مصر في ذلك الوقت، وظلت أمنيتي وشباب جيلي ممن درسوا بعدي في السبعينيات إدخال المراقبة الرادارية في مصر، حيث أنها كانت في ذلك الوقت بالنظام الإجرائي المعتمد على النظر واللاسيلكي فقط.. كانت ظروف العمل صعبة حينها، ولكننا عملنا بالمتاح ".

"لكن رغم ظروف العمل الصعبة، كان وضعنا أفضل من دول كثيرة، لم تكن تعرف شيئًا عن المراقبة الجوية إلا من خلالنا، وحينها كان هناك متسع من المجال الجوي التي تشرف على إدارته مصر بمراقبيها حتى جاءت حرب 1967 "النكسة"، وفقدنا جزءا كبيرا من مجالنا الجوي ناحية الشرق، تحديدا فوق سيناء وأعيد رسم المجال الجوي دونها".. وبصوت متألم منخفض ردد "كان ذلك أصعب وقت حينما رسمنا سماء سيناء ضمن أجواءنا المحرمة.. وأصبحت طرقنا الجوية منكمشة دونها، حتى جاءت حرب 1973 م وعادت من جديد".

واستكمل:" بعد حرب 1973 استقرت الأمور كثيرًا في قطاع الطيران، وحدثت طفرة في المراقبة الجوية بدخول الرادارات عام 1981 في مطار القاهرة والتي شاركت في تطويرها أنا وزملائي ممن درسوا المراقبة الردارية في ذلك الوقت، وتفرغت لها تمامًا وعملت حينها على تدريب كافة الكوارد المصرية الموجودة على الأجهزة لمدة عام حتى كتب لها النجاح عام 1985، واشتركت أيضا في وضع الدراسات الخاصة بالمرحلة الثانية للمشروع بهدف امتداد الغطاء الراداري ليشمل المجال الجوي المصري عن طريق الأقمار الصناعية".

دخول الردارات قطاع الطيران المدني الذي كان له وضعه وهيبته أيضًا حينها، شكل طفرة كبيرة وأسدال الستار على صعوبات جسيمة كانت تواجه رجال المراقبة الجوية حينما كان العمل إجرائيًا دون شاشات رادار يرى المراقب من خلالها عمله، فيذكر "القاضي"، أن من أصعب اللحظات التي واجهتهم كان التعامل مع الطائرات الروسية إبان فترة السبعينات أثناء حرب أكتوبر، حيث كان الطيارون الروس يتلقون الأوامر باللغة الروسية وليس الانجليزية، كنا نواجه صعوبة في التعامل معهم حيث كانوا لا يفهمون الانجليزية وكانوا يعجزون عن فهم الرسالة الموجهة لهم من المراقبين ونتفاجئ بهم يدخول من جهة مغايرة كانت من الممكن حينها أن تسبب كوراث، فكان عدم وجود نظام يرصد الحركة كان أمر في غاية الصعوبة ولكن الكفاءات الموجودة كانت على قدر المسئولية.

ويذكر ضاحكًا أيضًا، أن أطرف المواقف التي مرت عليه، أثناء عمله بالمراقبة الجوية في فترة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حينما تلقى إشارة من رئاسة الجمهورية بأن الرئيس عبدالناصر يعطي تحيه للملك حسين وطائرته في الأجواء المصرية، "تحدثت مع قائد الطائرة الملكية الأردنية وأخبرته أنه لدى رسالة لجلالة الملك حسين من الرئيس عبدالناصر، إذ بجلالة الملك هو قائد الطائرة، يرد قائلا:"اتفضل أنا الحسين.. الحسين يتكلم".. أصابتني الدهشة حينها، ثم أعتدت على الأمر، فدائما كان الملك حسين يقود الطائرة بنفسه".
وأمام تلك التحولات، التي شهدها قطاع الطيران المدني مع أجيال كان لها الفضل بالمساهمة في تطويره، بل أيضا ساهمت في تطوير القطاع داخل دول عربية شقيقة، كان لابد أن يكون هناك مرجعًا وسندًا تاريخيًا يعود إليه الدارسين والباحثين بعد سنوات ليعلموا كيف مر تاريخ الطيران المدني المصري منذ النشأه وحتى قرب نهاية فترة التسعينيات، ويوضح أيضا بعض الأمور المتعلقة ببدايات الطيران، الذي ظللنا جميعًا نردد أن العالم العربي عباس بن فرناس، هو من قام بأول تجربة طيران في أسبانيا بعد الفتح العربي للأندلس وهي المحاولة التي انتهت بكسر ظهره عندما قفز بجناحين فوق ربوة عالية فسقط على الأرض وفشلت محاولته، لأنه لم ينتبه أن للطيور زيولا تساعدها على التوازن أثناء الطيران.

"شهود العصر"، الذين سجلوا تاريخ الطيران المدني المصري في مدة تصل إلى 8 سنوات من عام 1988م حتى 1995م، - وكان كابتن ثروت القاضي أحد المشاركين في كتابة هذا التاريخ -، قالوا إنه وجد في مصر رسوم متحركة للأجنحة على كثير من الآثار القديمة التي يرجع عهدها إلى آلاف السنين، بالإضافة إلى تمثال محفوظ داخل المتحف المصري بالقاهرة، "نفرتوم" المجنح المصنوع من البرونز نموذجا صغيرا من خشب الجميز لطائرة شراعية لا محرك لها، وهو يمثل أقدم أثر ملموس يؤكد أن مصريا اسمه "بادي إيمن" عاش قبل 2200 سنة في منطقة سقارة وكان يهوى الطيران، اكتشفه عالم فرنسي في القرن الماضي من الزمان، وسجله حينها على أنه "طير"، فلم تكن الطائرات قد عرفت في ذلك الوقت، لذا عذره العالم في خطأ التسجيل.

ظل "كابتن القاضي"، متباهيًا بكونه ضابطا مراقبة جوية مصريًا استطاع أن يقدم لبلاده، أكثر ما كان يتمنى أن يقدمه بالتحاقه بالجيش، الذي كان أمُنية شبابه التي عجز عن تحقيقها، ولكنه أطلق ورجال عصره على "المراقب الجوي"، أنه الجندي المجهول ليس في منظومة الطيران وحدها، بل على مستوى الدولة التي لا يوجد لديها ثقافة هذا المجال، مسُتشهدًا بموقف أثناء زيارته إلى مطار هيثرو بلندن، حينها كان كبير ضباط مراقبة جوية وكانت هناك زيارات متبادلة في فترة الستينات مع لندن لنقل الخبرات، "كانوا يعرفونني بفخر أمام الموجود على أنني شاب مصري كبير ضباط المراقبة الجوية في مصر، حينها كان عمري لم يتجاوز 25 عاما، وكان كبير ضباط مطار هيثرو فوق الستين عاما".

وبفخر، عبر عن إعجابه بما أصبح عليه وضع الطيران المدني المصري الآن، وأنه أصبح يضاهي أكبر دول العالم بتقدمه التكنولوجي في كل شئ سواء داخل المطارات أو بالمنظومة كلها.

واختتم "القاضي"، لقاءه معنا، برسالة وجهها إلى تلاميذ تلاميذه من رجال المراقبة الجوية، الذين يحملون على عاتقهم مسئولية كبيرة تجاه بلدهم الآن، قائلا:" اعملوا أكثر من أي شئ في الحياة.. أعلم أن تواجهكم صعوبات.. ولكننا من قبلكم صنعنا التاريخ بملاليم".

كابتن عبدالخالق ثروت أحمد القاضي، الشهير بثروت القاضي، ولد عام 1938 في محافظة سوهاج بصعيد مصر، ثم انتقل للقاهرة في منتصف الخمسينات للالتحاق بكلية الأداب قسم جغرافيا جامعة القاهرة والتي تخرج منها عام 1958م، أعقبها عام 1960 الالتحاق بالعمل في مصلحة الطيران المدني كضابط ملاحة جوية حينما كان مقرها في مطار ألماظة "الهايكستب"، وأصبح كبير ضباط مراقبة بمراقبة المنطقة عام 1963، حصل على فرقة طيار خط جوي عام 1966، وانتدب للعمل مدرسا بمعهد إمباب للتدريب على أعمال الطيران المدني للتدريس بفرق الطيارين والمراقبة الجوية عام 1967 حتى 1978، بعدها تم إعارته للهيئة اليمنية للطيران المدني بصنعاء ليدرب الكوادر اليمنية، وعاد في أوائل الثمانينات للمشاركة في مشروع تطوير المراقبة الجوية بالرادار والحاسبات الآلية بمطار القاهرة، والتي شارك جميع أعمال الاختبارات بالمشروع خلال مرحلته الأولى التي نجحت عام 1985، ووضع الدراسات الخاصة للمرحلة الثانية، بالإضافة إلى أنه كان له دور كبير في المشاركة بتطويرات العديد من المطارات المصرية، فضلًا عن أنه مثل الدولة في العديد من المحافل الدولية بقرار من مجلس الوزراء، أخرها كان بالمنظمة الدولية للطيران المدني في مونتريال بكندا عام 1997، وكان له مساهمة كبيرة في إلغاء التدخين على رحلات شركات الطيران المصرية، فضلا عن أنه ساهم في اعتراف العالم باللغة العربية لدى الدول الأعضاء بالمنظمة العالمية للطيران المدني وإجبارهم على التجربة بالعربية للجلسات، وكان إنجازه الأكبر الذي اعتبره ثمينًا لا يقدر مشاركته في تسجيل تاريخ الطيران المدني المصري، هو ورفاقه من شهود العصر الذي استغرق منهم نحو 8 سنوات.