الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

يحيى ياسين يكتب: الدوّامة

صدى البلد

لا يذكر صديقي من صغره سوى أنه تيقظ من نومه ذات يوم على ضجيج في منزله إذ أتت خالته تصحب أبناءها في زيارة لهم تمكث بها بضعة أيام، يروي الرفيق أنه جاءه "سامر" أحد أبناء خالته الذي وُلد في مثل عامه حيث التحقا سويا للمدرسة فأيقظه من نومه أن قمّ يا فتى فإني قد نجحت فزدت عليك بضع درجات وآباؤنا يتناجيان بالخارج حزنا!.

وقع في نفس الفتى البالغ من العمر ستة سنوات فقط شيئًا لم يسطع وصفه، قليلا حتى ترجل من مرقده إلى خالته يحتضنها فوجدها تمازحه بحديث لم يعجبه فلم تحتضنه بل بدأت في توبيخه بعد أن أخرجت صحيفة درجاته لماذا أجدك انتقصت هنا وهنا ألم ترِِ كيف فعل ولدي قرينك؟ ألستما تترددان سويا للمدرسة؟

وجد أباه على غير وجهه وأمه تمقته كأنه قد رسب فتساءل ببراءته هل رسبت يا أماه؟ فمصمصت أمه حتى ابتلعت ريقها فلم تجبها هامسةً في أذنه أن اصبر حتى ترحل خالتك ثم نتحدث، ظلّ الفتى جريح القلب طيلة يومه يجلس بين رفقته كأنه تثاقل جسده ينتظر أن يعرف ماذا حدث؟

ما أن رحلت ضيفتهم فأحضراه أبويه إليهما ينهرونه أنه قد حصل على المرتبة الرابعة بالمدرسة وقد ازداد عليه ابن خالته بضع درجات وقد كان الأول!، بكى الطفل قليلا ثم رحل لوسادته وقد أحدث الحمقى في نفسه شيئين، أحدهما أنه وُضع في مقارنة ليس له يدٌ فيها سيظل بها ساخط على حاله طيلة حياته، والأخرى أنه لا يُجدي أن يكون ناجحا قدر ألّا يتفوق عليه أحد.

يُكمل رفيقنا قائلًا أنه قد طُبع ذلك الموقف في رأسه فظلّ يكابد مرحلة تلو الأخرى ويتكرر مثيله، والدمع رفيقه في كل ليلة، أفقده الصراع صديقه فلم يعد يحبه وقد نصبّوه له منافسًا على أحدهم أن يغلب الآخر، حتى إذا شبّ قليلا فتفوق على صديقه فجاءوه يزفون إليه الخبر فتبيم قليلا ورحل!.

يقول الصبي أنه جاء لأمّه يوما يحدّثها حزينا "لماذا يا أماه علينا جميعًا أن نكون فائقين يغلب أحدنا الآخر؟ أليس من الأجدر أن يتعلم جميعنا فنتنافس النجاح دون أن يكون صراعًا؟ ماذا لو بات كلٌ منّا يدرس ما عليه محبًّا ويعين أحدنا الآخر لا يبخل بما تعلم بُغية أن يغلبني وأغلبه، أماه! إنكم والله قد أفسدتم عليّ سنوات أصارع ابن خالتي فلم يعد يحبني وأحبه تارة يغلبني وأخرى أغلبه، ما بات يجمعنا سوى الصراع!.

ثم يستكمل الصبي حديثه قائلًا " أماه إني وجدّت صديقي يقتتل مع زميل لنا فأسرعت أن أذُب عنه فصدّني أن أبتعد ظانًّا أنني ذهبت أشتم به لا أدافع عنه! إني حزين يا أمي، فلم تُظهر أمه شيئا على وجهها سوى أنها أخبرته أنه صغير ساذج عليه أن يكافح كي يصبح طبيبا.

شبّ الصغير حتى لم يعد أمردًا وقد أفسدا عليه حياته فبات مصارعًا لكل شيء وأي شيء، شعاره الأوحد أن لا بقاء متنفسنا إلا مصارعًا، فلا رفقة له ولا صُحبة لا يثق بأحد، لا يُحبّذ الجماعات، ثائرًا متمردًا لا يُطيق ما عليه ولا أبويه يتعايش كأنه يلفظ أنفاسه كي تنتهي حياة بؤسه يومًا قريبًا.

بات الرفيق في "دوّامة" لا يخرج من دائرة حتى يلحق بأخرى، لا تنتهي مرحلة إلا وقد أحدثت ندبتها على جسده وجرحها في قلبه، فلا هو قد تمتع بها وإن حقق ما كان يصبو إليه وجد نفسه جالدّا لنفسهِ أنه ليس كافيًا، زادت وحدته حتى بات غريبًا بين القوم، يتبسم ولا يضحك، فأحضر قلمه يخُط جملته على يده "كنت أود أن أعيش سويا لا أمقت أحدا أمرح مثلهم، وددت لو كنت سويا فحسب يا أمّي، ثم أغمض عينيه ولم يقم ثانية.