الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ابتلاءات سيدنا إبراهيم.. وما أشبه الليلة بالبارحة!


إن الابتلاء المقرون بالصبر والتسليم والتأدب مع الله والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه هو طريق النجاة، والأضحية تذكرنا دوما بالابتلاء العظيم؛ وتعيد الذاكرة الجمعية للأمة إلى أنواع فريدة وجليلة من الابتلاءات.


ولقد ابتلى ربُّنا جل وعلا سيدَنا إبراهيم (عليه السلام) ابتلاءات عظيمة، حيث ابتلاه في ولده إسماعيل ابتلاءين كبيرين:

· فبينما هو شيخ كبير ظل يرقبه في ضمير الزمان مدة طويلة، إذ به يؤمر بأن يودعه في مكان موحش هو وأمه، حيث لا أنيس ولا ونيس غير الله، بوادٍ غير ذي زرع، لا ماء ولا غذاء في تلك البقعة الجرداء!! وتقول زوجته السيدة هاجر: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.


قالت: إذن لن يُضَيِّعنا الله.


ويمر الوقت، وينفد الماء والزاد، الصغير يبكي جوعًا وعطشًا، وقلب الأم يبكي، بكاء الرضيع يزيد، ويقينها في ربها يزيد، فإذا بها تندفع وتجري بين الصفا والمروة، تنظر يمينًا ويسارًا، تنظر إلى الأمام وإلى الخلف، فلا تجد شيئًا إلا الثقة بالله، وكلَّما اقتربت من رضيعها ازداد تألُمها، حرارة الشمس شديدة، والرضيع لا يفتر عن البكاء، تندفع بين الصفا والمروة مرة ثانية عساها تجد ما لم تجده في جولتها الأولى، وأخذت تتردد سعيًا بينهما رجاء الفرج، وهي بعيدة عنه بجسدها دون قلبها، حتى إذا هلك يهلك وهي بعيدة عنه ولا تراه!!


لم تيأس من روح الله، بل ظلت تسعى واليقين في الله حليفها، ولما بلغت شوطها السابع فإذا بلطف الله يأتيهما، نظرت من بعيد؛ فإذا بها تجد عينًا تتفجر في وسط الرمال!! ويا لها من كرامة كبرى تخطت حدود الزمان والمكان والحال!! فهرعت إليه لتروي ظمَأَه وظمَأهَا الذي كاد أن يُودي بهما، إنها زمزم التي تعد شاهد عيان على مكافأة الله للممتثلين لأوامره الصابرين على بلائه، لذلك شُرِعَ السعي بين الصفا والمروة، وجُعِلَ شعيرة من شعائر الحج، وكذلك الشرب من ماء زمزم.


· ولما بلغ إسماعيل أشده إذا بابتلاء آخر ينتظره وينتظر أباه؛ إذ رأي إبراهيم في منامه أن الله تعالى يأمره بذبح ولده إسماعيل، قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102).


وهنا يتجلى الأدب الرفيع العالي، أدب إبراهيم مع ربه جل وعلا، وأدب إسماعيل مع أبيه عليهما السلام، إبراهيم يريد أن ينفذ أمر الله بذبح ابنه الوحيد الذي جاءه بعد شوق طويل!! وإسماعيل يضرب أروع الأمثال في الصبر على البلاء وطاعة الآباء، والتأدب مع والده.


فقال: يا أبت - ولم يقل يا أبي - زيادة في الأدب والتبجيل والتعظيم له، لم يعترض، لم يهرب، لم يتلفظ ببنت شفه تغضب ربه أو أباه، بل سلَّم الأمرَ كله لمولاه!!


ويا ليتنا نتعلم هذه المعاني العظيمة من أخلاق الأنبياء، ومن كتاب الله الخالد الذي صوَّر هذا المشهد البالغ الدقة، بقول الله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)( الصافات:103-107).


وهكذا لما امتثل الولدُ والوالدُ لأمر الله؛ كان الجزاء هذا الفداء المهيب الذي لم يأت من الأرض، بل نزل من السماء، من أجل ذلك شرعت الأضحيةُ في الإسلام، وجعل الله ثوابهَا عظيمًا ونفْعَهَا عميمًا، وفي هذه الأيام ونحن نتذكر هذه الذكريات، نتذكرها وقلوبنا تمتلئ إعظامًا وإكبارًا لسيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل وسيدنا محمد ولرسل الله كافة عليهم السلام؛ لما بذلوه من جهد وعناء ومشقة وابتلاءات في سبيل الدعوة إلى الله.


ومن المقاصد التربوية التي نتعلمها هنا: أن كلا من الابتلاءين تعلق بحياة ابنه الوحيد برمتها، فالأول وضعه وهو رضيع في مكان موحش لا ماء فيه ولا غذاء ولا أمن ولا أمان، والثاني ما يتعلق بالذبح بعدما شب عن الطوق واشتد ساعده.


وهكذا فإن الابتلاءات التي تتعلق بالحياة هي ابتلاءات عظيمة جدُّ عظيمة، ولكن الخليل يثق في رحمة الجليل.. ويوقن أن ما شاء الله سيكون، وما لم يشأ لن يكون، وما أشبه الليلة بالبارحة!!


وهكذا ونحن نعيش هذه الجائحة الخطيرة التي تتعلق بأرواح الناس في كل مكان، يجب أن نعود إلى ربنا ونمتثل له؛ حتى يشملنا الجليل برحمته التي شملت الخليل وابنه عليهما السلام. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط