الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الفن .. الحلقة الأضعف؟!

 

 

هناك أشياء لا يمكن أن تخضع فقط للعقل، وإن كان للعقل فيها نصيب، وذلك لأنها ليست قوالب جامدة، كما أنها ليست معادلات رياضية خالصة، وكذلك فإنها ليست قوانين علمية يمكن لمن يتعلمها ولمن يتقنها أن يصل فيها إلى نتائج ثابتة ولمن ينفذها أن يحصل على حقائق يقبلها الجميع دونما الدخول في نقاش أو جدل أو أخذ ورد.

ويظل شيء كثير من الذاتية يحكم نظرة الإنسان لهذه الأشياء غير العلمية البحتة، فيقبل هذا ويرفض ذاك، ويروق له عمل وينفر من آخر، دونما معرفة حقيقية للأسباب التي تدفعه إلى هذا أو إلى ذلك، حتى وإن حاول الوصول إلى تلك الأسباب فتظل أسبابا ذاتية تخصه هو فقط وربما يتفق معه غيره في هذه الأسباب في ذات الوقت الذي يرفضها آخرون رفضا مطلقا.

ومن أهم المجالات التي تخضع للذاتية مجال الفنون والذي هو، رغم إقبال جميع البشر دون استثناء وبشكل أو بآخر عليه،  متهم، وسهل على الإنسان أي إنسان أن ينال من قيمة الفنون، طالما لم ترق له، بل إنه من اليسير أن يحملها المجتمع كل أسباب الشرور التي تقع فيه، هذا الذي نراه هروبا من مواجهة المجتمعات لواقعها والأسباب الحقيقية التي أدت إلى وصوله لما وصل إليه من تدهور، ومن ثم يبحث عن ما يحمّل عليه أسباب هذا الفشل الذي لا يرضى عنه، ومن ثم ينشد واقعا جديدا به من القيم ما ينقص مجتمعه الراهن.

ونحن هنا نحاول معرفة لماذا يلجأ المجتمع في مجمله إلى تحميل الفنون وزر ما وصل إليه مجتمعاتنا المريضة، وربما في قول واحد نزعم أن ذلك نتيجة لكون الفن أقل مجالات الحياة، في الظاهر فقط، صلابة وحماية، فليس وراءه مؤسسة مجتمعية قوية تدافع عنه، وكأنه ارتضى، كما  يفعل دائما، أن يكون أيضا مسكنا لآلام الناس، وأن يرضى بدور الضحية ليستمر الإنسان في الحياة متوازنا، بعدما يهرب من تلك المواجهات التي لا يستطيع عليها صبرا.

إن الإنسان بطبيعته يلجأ إلى الحلقة الأضعف، يتعامل معها، ويحاول أن يحل إشكالياته من خلالها، والإنسان يظن أن الفن هو الحلقة الأضعف في مجالات حياته المختلفة، فهو لا يستطيع أن يقترب من الدين، ولا أن يتجاوز الأمر في السياسة، ولا أن يقتحم أسوار الاقتصاد ليتجاذب معها ويتحاور، بل ويتهجم عليها، هذا الذي لابد منه لكي يحصل المخلوق البشري على حالة التوازن خاصة في حالات الإخفاق والفشل التي تواجهه، فلا يبقى أمامه إلا الفن الحلقة الضعيفة والتي لن يجد من يستأسد لينبري دفاعا عنها، حتى وإن حدث فإن الخسائر في هذه المعركة يسيرة للغاية، بل ربما توهم فيها الإنسان المحبط انتصارا مزعوما يعزز هذا التوازن النفسي الهام للإنسان.

ولذلك كثيرا ما نجد هجوما كبيرا على الفن عموما، وربما كان ذلك نتيجة لتلك الحرب الشعواء التي يشنها رجال محسوبون على الدين على الفنون باعتبارها أعمال ما أنزل الله بها من سلطان، على الرغم من أن، حسب ما نعتقد، كل من الدين والفن من مصدر واحد، هذا الذي جعل الفن عموما متهما في المخيلة الجمعية للمجتمعات التي تزعم تدينا، خاصة تلك التي لا تتمتع بثقافة راقية.

وبالنسبة لنا فإن الفن كان هدفا لسهام بعض رجال الدين لما له من تأثير على النفوس، هذا التأثير الذي يخشاه هؤلاء؛ لأنهم لا يريدون لغيرهم من سلطان على الناس، ويحاربون كل ما يمكن أن يشاركهم هذه السلطة التي هي، في تصورهم، مطلقة لهم فحسب، ومن هنا فإن أي مجال من المجالات يمكن أن يقاسمهم سلطة تأثيرٍ على الناس فإنهم لا يتوانون في محاربته، ولمَ لا وهم يريدون، حسبما يصرحون، مجتمعا سويا نقيا تقيا، هذا الذي يعكره الفن من ناحية وأصحاب الفكر من ناحية أخرى.

وربما ينجح رجال الدين في تشويه الفن والفكر، ولكنهم لم ينجحوا مرة واحدة، عبر التاريخ، في كل حقبه، مهما كسوها من خيالهم لباس التقى والفضيلة، لم ينجحوا ولو مرة واحدة في أن يبعدوا الفن من الفضاء العام، ولا أن يفرغوا المجتمع من الفنون، فهذا ضرب من المستحيل، لا لشيء، سوى لأن النفس البشرية صممها الخالق العظيم تميل للجمال وتجنح للعذوبة، وتهوى الرقي، هذا الذي تعكسه في صورته المثلى الفنون، ويصوره أرقى تصوير الفنان.

وكما يفعل رجال الدين يفعل الساسة الذين هم، في الأصل، في تحالف مع رجال الدين، فإما أن يصبح الفن في خدمتهم وإما أن يكون هدفا لهجوم شرس منهم، ويحملوه كل موبقات المجتمع، التي من أوجب واجباتهم في الأصل تنقية المجتمع وحمايته منها، ولكن بدلا من العمل على ذلك فإنهم يلجؤون للطريق السهلة والعلاج الذي لا يكلف عناء وهو إحالة أسباب تلك الموبقات إلى أثر الفن السلبي على المجتمع، على الرغم من قدرتهم، بحكم السلطة التي يدينون المجتمع لها لقادرون على منع الأعمال الفنية "الهابطة"، لا نقول من التواجد، بل من الانتشار، فوسائل الإعلام المختلفة، في الغالب الأعم، التي تعمل على نشر ما ليس مناسبا للمجتمع من فنون تخضع لسلطتهم.

أما في المجال العلمي فإن تلك المقارنة بين ما للفنانين من شهرة وأضواء، وما يملكون من ثراء ونظرائهم من العلماء الذين الغالبية العظمى منهم مغمورين، فلا يكاد يعرفهم إلا هؤلاء المتخصصون في مجالاتهم العلمية، فلا كاميرات تطارد العلماء، وليس هناك معجبون يلتفون حولهم، ولا "مهاويس" بالعلم يتخطون الصفوف، إن وجدت، ويرمون بأنفسهم من أجل التقاط صورة مع هذا العالم أو ذاك، ولا نحيب يصدر ولا تشنج من بعض الفتيات الجميلات لمجرد رؤية عالم، تلك المشاهد التي هي معتادة ومشاهدة بكثرة بالنسبة لنجوم الفن، وهذا شيء طبيعي!.

فالعالِم يعكف في معمله على البحث في فرع من فروع العلم بعيدا عن أعين الكاميرات ووسائل الإعلام والصحافة، حيث يفرّغ العالم نفسه تماما لكي لا يشغله شيء عن موضوع البحث الذي يعكف عليه، هذا الذي يناسب عمل الباحث أو العالم، عكس الفنان الذي هو مرتبط ارتباط وثيق بالناس، وبحالاتهم المتباينة وانفعالاتهم المختلفة، والتي من أهم واجباته، إن جاز التعبير، أن يعبر عنها، ولذلك لابد أن ينخرط الفنان انخراطا بالمجتمع وناسه، فالفن يقضى عليه تماما ويموت لو حبس في غرفة أو انصرف عنه الناس، فالفنان يعبر عن وجدان الناس ويصور حالاتهم ويعالج مشكلاتهم بطريقة فنية، ومن هنا فهو مرتبط ارتباط عضوي بالمجتمع وأفراده.
لقد عاش، ومازال، الإنسان بدون دين ومن غير سياسة وبالمحدود من العلم في فترات طويلة من حياته على الأرض، لكنه لم يعش دون فن، مهما كان شكل هذا الفن، فلقد احتاج له الإنسان ليعبر عنه ويمنحه الراحة، ويدفعه إلى الأمام من خلال الخيال الذي هو أخص خصائص الفنون.

وربما كانت أولى محاولة لإصدار صوت في طريق رحلة الإنسان لمغادرة حالة البكم التي كان عليها قبلما يصبح ناطقا، بضغطه على أحد أماكن المخارج الصوتية التي أصبحت فيما بعد تمثل الجهاز الصوتي للإنسان من حنجرة وشفتين ولسان وأسنان ورئتين وأنف، ليصبح متحدثا للغة للتواصل بينه وبين أخيه الإنسان كانت عبارة عن نغمة موسيقية مبهمة تطورت لتصبح أرقى أنواع الفنون القولية وهو فن الشعر، وبالتأكيد أن قطعة الطين الذي صنع منه أولى أدواته هو نوع من الفن الذي تطور لنجده في قمته الراقية في فن النحت.

ومن هنا فإن الفن، ليس كما يظن البعض، هو حلقة ضعيفة في المطلق، ولكنه لا يرى بأسا في أن يستمر في تقديم دوره الهام للإنسان مضحيا في سبيل أن يحفظ للإنسان غروره وأن لا يشعره بعجزه، وأن يحافظ للإنسان على توازنه النفسي.

 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط