الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حكم حرق البضاعة للحصول على المال .. دار الإفتاء تجيب

شراء السلع
شراء السلع

ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول (ما حكم حرق البضاعة من أجل الحصول على المال؟ مثل شراء سلعة بالتقسيط وبيعها في نفس الوقت للحصول على سيولة مالية؟

وأجابت دار الإفتاء على السؤال، موضحة أن ما يلجأ إليه بعض الناس من شراء سلعة معينة بالتقسيط، ثم يبيعها للتاجر ذاته بسعر حالٍّ معجل أقل، هو أمر جائز من حيث الأصل على المستوى الفردي من الطرفين، ما دام لم يترتب على ذلك محاذير ومفاسد أشد؛ كالغبن الفاحش، أو الإغراق في الديون المعجوز عن سدادها بما يحقق المفسدة للمحتاج أو الفقير ويزيد من أزماته، أو يحصل استعمال ذلك للتحيّل على أكل أموال الدائنين أو مماطلتهم بإجراءات التقاضي الطويلة.


وذكرت دار الإفتاء، أن هذه المعاملة هي التي تسمى (بيع العينة)، ولم يرد نصٌّ أو إجماع يمنع منها، وهي داخلة في مسمى البيع؛ لأنها عبارة عن شراء السلعة دينًا ثم بيعها حالًا، وهو وإن كان الغالب فيه هو الخسارة عن الثمن الآجل، إلا أن هذه الخسارة معوضة بما حصل له فيها من تيسير أمره وقضاء حاجته.

وأما بيع هذه السلعة المعينة لغير مَن اشتراها منه أولًا بثمن حالٍّ أقل، فهي أولى بالجواز من الصورة الأولى؛ لأنه إن جاز البيع للبائع نفسه فإنه يجوز بيعها لغير البائع من باب أولى.


صور مسألة حرق البضائع


وأما شراء الإنسان لسلعة معينة نسيئة، ثم بيعها بعد ذلك بثمن حالٍّ أقل، كنوع من أنواع التحيّل للحصول على النقد فله صورتان:

الأولى: أن يبيعها للبائع الأول.

الثانية: أن يبيعها لغير من اشتراها منه أولًا.

الصورة الأولى: أن يبيعها للبائع الأول
أما الصورة الأولى؛ وهي أن يشتري الإنسان سلعة معيّنة نسيئة، ثم يبيعها بعد ذلك ثانية لذات مَن اشتراها منه أولًا بثمن حالٍّ أقل، للحصول على النقد؛ وهي المسماة في كتب الفقه بـ"العِينة"، قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (1/ 313، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [سميت عينة لحصول العين -أي: النقد- فيها] اهـ.

اختلاف الفقهاء في حكم الصورة الأولى
بيع العينة من البيوع المختلف في حكمها بين الفقهاء، فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى المنع منها.

وأما الشافعية والقاضي أبو يوسف من الحنفية فقد ذهبوا إلى أنَّها معاملة جائزة، بل إن أبا يوسف يقول: "مأجور مَن عمل بها" اهـ. انظر: "حاشية ابن عابدين" (5/ 273، ط. دار الكتب العلمية).

فالتعامل بالعينة طلبًا للحصول على السيولة النقدية جائز، وكون النتيجة التي آلت إليها المعاملة مماثلة لنفس النتيجة التي كان التعامل يتم بها من شراء الصاع بالصاعين، لا يكون مؤثِّرًا في جواز هذا وإباحته؛ لكون ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصل بعقدين مستقلين مشروعين لا علاقة لأحدهما بالآخر من حيث الاشتراط، فتبين أن مجرد مشابهة عقد مشروع لآخر ممنوع لا يكفي للقول بتحريم المشروع.

وهذا الحديث مُطلقٌ لم يُفرّق فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين صورة دخول شخص ثالث في الصفقة، وصورة أن يتم البيع والشراء بين اثنين دون توسط ثالث، والقاعدة أنَّ المطلق يجري على إطلاقه حتى يرد ما يُقيّده.

والشافعية وإن أجازوا هذه المعاملة مع الكراهة، إلا أنَّ هذه الكراهة تنتفي إن كان هناك حاجة إلى تلك المعاملة، لأن القاعدة أنَّ الكراهة تزول بالحاجة. انظر: "غذاء الألباب" للسَّفّاريني (1/ 323، ط. مؤسسة قرطبة).

 

الصورة الثانية: أن يبيعها لغير من اشتراها منه أولًا
وأما الصورة الثانية؛ وهي أن يشتري الإنسان سلعة معينة نسيئة، ثم يبيعها بعد ذلك لغير من اشتراها منه أولًا بثمن حالٍّ أقل، للحصول على النقد؛ وهي المسماة في كتب الفقه بـ"التورق"، فهي جائزة.

والقول بالجواز هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو مندرج تحت بيوع الآجال عند المالكية.

ولم ينص المالكية صراحة على مسألة التورق، لكن ما يَقْرُب منها عندهم يندرج تحت بيوع الآجال.


والشافعية يرون عدم حرمة بيع العينة، ويذكرونها في جملة البيوع المكروهة -كما سبق بيانه-، فمن باب أولى صورة التورق؛ وذلك لأن بيع العينة يبيع فيه المشتري بالآجل للبائع نفسه عاجلًا، أما صورة التورق فإن المشتري يبيع فيها لغير البائع؛ فلأن يجوز البيع لغير البائع أولى من البيع للبائع نفسه.

ونحن إذ نجيز هذه المعاملة فنحن نجيزها على المستوى الفردي لا على وجه أن تصبح ظاهرة مجتمعية تؤدي إلى الإضرار بالسوق أو إضعاف الاقتصاد أو اتخاذ بعض الناس ذلك ستارًا لغسيل الأموال أو للنصب والاحتيال.

وقد ذكر العلماء أن الأحكام المتعلقة بالعموم قد تختلف في بعض الأحيان عن تلك المتعلقة بالأفراد، وقد يزيد هذا الاختلاف إذا زادت درجة العموم الذي ترتبط به الفتوى، في تدرج يبدأ من الفتوى المتعلقة بالفرد، ويمر بالفتوى المتعلقة بالجماعة، وينتهي بالفتوى المتعلقة بالأمة.

ولذلك نجد أنَّ علماء المسلمين وأئمتهم كانت لهم آراء مختلفة في بعض المسائل عن تلك التي قد يتبادر أنها هي الجواب الذي تقتضيه الصناعة الفقهية بالنظرة الأولية الساذَجة، وليس ذلك إلا لأن هذه المسائل لها آثار تتعلق بالجماعة أو بالأمة، وكان الأمر قد يكون مختلفًا إذا كانت تلك المسائل قد جاءت باعتبارٍ مختلف أو بنحوٍ فردي.

وأصل هذا ما ورد في السنة النبوية من النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ مع أن الأصل هو إباحة الانتفاع بها على أي وجه مناسب للمُضَحّي، ولكن لما أصيبت بعض قبائل العرب في سنة تسع من الهجرة بالمجاعة العامة، وقدم إلى المدينة قوم جياع يلتمسون الطعام والقوت، نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الادخار المذكور؛ ليُتَصَدَّق بما بقي منه على المحتاجين من المسلمين؛ فروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَالَ: لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ»، ثم لما زالت المجاعة وارتفع الموجب للحكم عاد الأمر إلى أصله من جواز التصرف والادخار دون قيد الثلاثة أيام؛ فروى الشيخان -واللفظ للبخاري- عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلاَ يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفِى بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»، فلما كان العام المقبل، قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: «كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا».

وهكذا يختلف الحكم فيصبح المباح في حق الفرد محظورًا لأجل المصلحة العليا للمسلمين، فإذا اندفعت الحاجة، عاد الأمر إلى أصل الإباحة.

ومن القواعد الشرعية أن "مراعاة المصلحة العامة مقدم على مراعاة المصلحة الخاصة".

وحفظ المال من مقاصد الشريعة العليا التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، فلولي الأمر إذا رأى أن التصرف بما عُرِف عند الناس بـ"حرق البضائع" يؤدي إلى الإخلال بهذا المقصد على المستوى العام أن يتدخل بالتقييد أو المنع متى ما رأى المصلحة في ذلك، والقاعدة الفقهية أن "تصرف ولي الأمر منوط بالمصلحة"، وأن "له أن يقيد المباح تحقيقًا للمصلحة".

وعليه: فما يلجأ إليه البعض هذه الأيام من شرائه سلعة معينة بالتقسيط، ثم يبيعها للتاجر ذاته أو لغيره بسعر حالٍّ مُعجَّل أقل، هو أمر جائز من حيث الأصل على المستوى الفردي من الطرفين، ما دام لم يؤد ذلك إلى محاذير ومفاسد أشد؛ كالغبن الفاحش، أو الإغراق في الديون المعجوز عن سدادها بما يحقق المفسدة للمحتاج أو الفقير ويزيد من ورطاته، أو يحصل استعمال ذلك للتحيّل على أكل أموال الدائنين أو مماطلتهم بإجراءات التقاضي الطويلة.