الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند عصام تكتب: ابحث عني

هند عصام
هند عصام

"ابحث عني إلى أن تجدني.. أنا في البريّة وقد انتهيت من إقتلاع الأشواك.. والآن سأزرعُ كرمة عنبٍ.. وقد غمرت النّار المستعرة في داخلي بالماء..فأحبّني كما تحبُّ حملانك الصغيرة.. واعتنِ بي كما تعتني بقطيع ماشيتك.. وابحثْ عنِي.. إلى أنْ تجِدني" .

هكذا دونت الفتاة هذه القصيدة لحبيبها مما جعلني اتفق معها وتذكرت مقولة لنزار قباني تشبه هذه القصيدة عندما قال "ما فائدة أن تحبّني كثيراً ولا تفهمني ،وتفقدني ولا تبحث عني ، أن أكون ضمن أشيائك ولا أكون أهمها .

وهنا كان يطلب ويحث حبيبته بان تبحث عنه مثلما طلبت الفتاة من حبيبها بالبحث عنها حتي يجدها وكانت هذه القصيدة من أقدم قصائد الحب والغرام في العالم، ومع إقتراب عيد الحب العالمي وقع الاختيار علي هذه القصة ولكن علي غير العادة ليست فرعونية مثل قصة شهيدة الحب إيزادورا وقصة الأميرة والقزم التي تحدثنا عنهم العام الماضي ،ولكن هذه قصة وجدت محفورة على أحد الألواح الطينة البابلية علي بعد أكثر من 1300 كيلو متر من شرق صحراء سقارة ، قصة حب من قلب أرض بابل ترتوي بحضارتها العظيمة.

وجدت تلك القصيدة ذات العبارات الرقيقة والمعاني السامية أثناء تنقيب العلماء في منطقة "نيبور" والمعروفة اليوم بـ"النفر"، الواقعة في مدينة الديوانية في العراق، و عثرت البعثة الأمريكية على لوحه حجرية صغيرة، يعود تاريخها إلى 2025 سنة قبل الميلاد، لا يتعدي طولها بضع سنتيمترات، وكالعادة استولوا عليها.


وتحمل هذه  القصيدة او "رسالة العشق" كلمات  أقل وصف يمكن أن يصف به تلك اللوحة القادمة من عُمق التاريخ، وذلك من خلال ما قدمه الباحثين في الدراسات البابلية، وقال البروفيسور أندرو أر جورج في "سواس" أو قسم لغات وثقافات الشرق الأدنى والشرق الأوسط في جامعة لندن، في إحدي محاضراته بجامعة شيكاغو، ان من قدمت هذه القصيدة العظيمة هي فتاة صغيرة، هكذا علي ما يبدو  من أسلوبها الرقيق فإن تلك العاشقة البابلية قد قدمت للإنسانية بقصيدتها هذه لمعشوقها  أرقي قصائد الحب و الغرام.

 وكانت  تلك أبيات قصيدة العاشقة البابلية، قد نقشتها بأناملها الرقيقة على اللوح الطيني باللغة الأكادية، وكانت هذه اللغة تسمى أيضاً باللغة الآشورية- البابلية، وهي من اللغات الساميّة الشرقية، وكانت اللغة المحكية في بلاد ما بين النهرين ما بين الألف الثالث حتى الألف الأول قبل الميلاد، وكانت تدون بالخط المسماري.

وبعد أن نجح العالم  أندرو جورج في تحويل النقش الثلاثي الأبعاد إلى نص، وجد أن إحدى نقوش اللوح ليست تعويذة كما هو حال النقوش الأخرى، وإنما هي قصيدة حب وغرام قصيرة، واتضح انها أقدم ما وصلنا إليه من حضارات العالم حتى اليوم، ولأن اللغة البابلية تستخدم حروفاً متحركة وحروفاً ساكنة، يعتقد المختصون بأنه بالإمكان لفظها وقراءتها إلى حد كبير، وكما كان ينطق بها سكان بلاد ما بين الرافدين أنفسهم.

وأشار البروفيسور أندرو أر جورج في محاضرته بجامعة شيكاغو إلى أنه في السطرين الأول والثاني من هذه القصيدة ، تم استخدام صيغة الماضي وآخر في صيغة المستقبل، الأول فعل "اقتلاع" وتحرر، والثاني فعل "زرع" وتجديد للحياة، وكأن هناك تقابل بينهما: تخلّص من مشاكل الماضي مقابل الأمل في فرح ينتظرها في المستقبل، فهناك "مسافة" بين الحقيقة والواقع من جهة، والأمل والمستقبل من جهة أخرى. وكأن تلك القصيدة كانت مناجاة الفتاة الصغيرة  من أوجاع الحياة ومعاناة ماضيها، في رغبة وتطلع منها  إلى الأمل والرغبة والسعادة في اللقاء والفرح.


 واكتشف  من صوت القصيدة، أنّ الفتاة صاحبة الأبيات الشعرية تأتي من الطبيعة من خلفية زراعية، وأما حبيبها الذي تناديه فهو شاب يعمل  راعي، وبهذا قد  ترمز القصيدة لقصة الحبّ التي جمعت بينهما.


 و قد فسر العلماء كلمة النار  اليوم بأنها رمز للحب والشغف، إلا أنها في الثقافة السومرية، كانت تعتبر رمزاً للقلق وللخوف، ولهذا يمكن توجمة هذا البيت: "وقد غمرت النَّار المستعرة في داخلي بالماء"، بأنّ الفتاة  تتحدث عن نهاية مخاوفها، ورغبتها بأن تبدأ حياة جديدة تحمل أمل ورغبة وسعادة ، وكأن محبتها لهذا الشاب الذي تناجيه قد حررتها من معاناة الحياة وماضيها.