لا يُداخلني شك أن لنا في الخيال حياة، فالخيال هو واقع حي في قلب صاحبه، وعوالم نابضة في عقل رفيقِه،به يحيا وهو يأمل، ومنه يتألم وهو يتأمل.. سنوات عمره التي تمضي دون أن تلتفت ولا تتجمل، وعليه يموت كمداً لما لم يُدرِكه حياً، محتسباً يمضي.. لعل حسرته هي شفاعته يوم لا ينفع مالاً ولا ولداً ولن يتبقى مِنه إلا عَملاً مجبوراً وحِلماً مكسورا.
ولكن أليس للحياة خيال، أم أنها لا تعترف إلا بمن كان لها خيَّال، يمتطي الأرض ولا يُبال فلا يشغله حسن الذكرى ولا جميل البيان، يطوي اليوم والأمس ويظن أنه الإحسان، ولا يسأل الاستحسان فهو يعلم أنه لم يبادر بالاستئذان، وتحت ضغط الذل والهوان، وشغف السلطة والقوة ومالها من لذة العنفوان، ألا تتذكر الحياة أن لها في بعض الخيال حياة!
وماذا إذا كانت الحياة تعلم أنها مدرسة ومُؤسَسة، كلنا بها نعمل وندرس دون حَول مِنا، ولن تحول عن ذلك قوة، حتى لو لم نبدي رغبة ولم نجد في ذلك مَسرة، فهي مسيرة لا تنتظر رأيك فأنت ماضِ لتكتب بها سيرة فلا تتردد ولا تأخذك حيرة، وأعتمد وتوكل على من كان بحالك على بصيرة، وامض فيما تمضي ولكن تخير عِلمَك وعَملَك، وتدبر أمر مُعلمَك، تأمل قوله وفعله، وأسرح في شأنه وأمره، وتخيل تفاصيل يومِه وخُلقِه، وما لاقاه من رحمة خالِقه وقسوة خَلقِه، لتعلم أن في الحياة واقع يفوق كل مايرد في عوالم الخيال، فلا تبتئس على حالك فهذا حال الدنيا دار المهالِك، ومن نعمة الله أن كل من عليها هالِك.
لذا في تلك الذِكرى العطرة، ولادة رسول الإنسانية خير الخلق وأعظم من أنجبته البشرية المصطفى المحمود، محمد الذي ليس له مثيل في الوجود، وما من مثله موجود، العابِد لأجّل معبود، والمعصوم عن الهوى والمنزه من الذنوب، الزاهد في عطايا الكون المادية، وما جاء إلا ليتمم مكارم الأخلاق ويصلح حال الخَلق المعنوية، فهو رسول الرحمات ونبي الإنسانيات الذي لم يأتي بالمعجزات ولكنه جاء بالبيان وصالح العمل الذي يسمو بالروحانيات ويبعث في الظلمة أمل الرجاءات وبصيص الأمنيات.
شفيع أُمته، وطوق النجاة لمن قست عليه دنيته، نبي النور ويا نور من الله يعلو على كل نور، اشتاق قربك يا حبيبي فلا تردني فمن لي سواك شفيعي، وإن لم أحسن السير على دربك، فربك يعلم أن ذلك كان لي كرباً، وما كان مِن نفسي كِبراً، ولكنها النفس الأمارة ببعض سوء، والله شاهد أني أجاهد حتى تعدل ولا يزداد السوء سوء، فأعني يا إلهي واجعل صحبة نبيك مستقري، ورحابه مقامي، وشربة ماء من يده في صحيفة أقداري، وذلك من طمعي في رحمتك وعطفك وإحسانك يا مولاي، وليس جزاء عمل قدمته فانتظر لِقاه، فما من عطاء يبذل ولا شكر لسلطانك يُجزَل لتكون جزاء خاتمتي وجهك الكريم ووجهة نبيك العظيم، فما لي إلا عَشم ويقين في رحمتك يا أرحم الراحمين، وشوق يمتلكني لشفاعة نبيك الصادق الأمين.
ففي يوم ما في عام ما لم يتفق المؤرخون إذا كان هو عام الفيل أي 570 ميلادية أم قبل ذلك بأعوام قليلة، أو بعده بسنوات ليست ببعيدة، ولد نبي الهدى في تلك الأرض المباركة العجيبة بثرائها رغمًا عن جدب مواردها وجفاف زمزمها وصلف أجوائها، وتلك الذِمم حمتها من مطامع العدو والإغارة والتغاضي عما يمتلكه سادتها من ثروات وماشية ومشغولات ذهبية جبارة، وكل ذلك بفضل التجارة المتمثلة في رحلتي الشتاء والصيف.
جاء مولد الرسول كما ذُكر في بعض الروايات أنه في رمضان وبأخرى أنه بمحرم، وربما ربيع الأول، وذهب البعض ليجزم أن مولد سيد الهُدى كان يوافق أغسطس الميلادي.
ولكن كل هذا لا يهم فالحقيقة الثابتة الأهم أن في ذات ليلة مُشرفة يرمز لها بالثاني عشر من ربيع الأول ولد نبي الرحمة محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي وهي أسرة عريقة مُتأصلة، لذا كانت النبوة حقيقة دامغة، وليست بحثاً عن جاه ولا سلطان في وسط قومه، فهو كريم النسب شريف الانتساب، لم تجلب عليه الرسالة إلا عداء قومه واستعداء أهله، حتى غلب الله بالحق أمره ونصر رسوله ورسالته.
وُلِد النبي يتيماً فأباه الشاب الوسيم الذي تتمناه كل فتاة في قبيلته وأسفاره عبدالله، الذي نذر أباه عبد المطلب أن يذبح أحد أبنائه قرباناً للآلهة إذا رُزق بعشر أبناء يساعدوه على سقي الحجاج ورفادتهم وذلك الشرف كان حِكراً لعائلته بالإضافة لسدانة الكعبة وكل المناصب الدينية الرفيعة في ذلك الوقت، وكان ماكان ووُهِب بالعشر صبيان وجاء موعد وفاء الدين وتقديم القربان فاختارت الكؤوس عبدالله، ولما عُرف الخبر هلع أهل مكة لِفراق هذا الفتى الخلوق المحبب إليهم فطافوا على العرافات وإن عدوا حدود مكة لخلف جبل عرفات، حتى كانت البشارة أن يفتدوه من الإبل بعشر، ولكن أباه قرر أن يكون الفدو عشر العشر أي مائة ناقة، ولكن يشاء الله العظيم أن يمرض سيد الشباب بعد شهور قليلة من زواجه ويموت في أرض بعيدة، وربما إرادة الله أن يجعل في تلك الواقعة الأليمة تذكرة لقريش أن آلهتهم ليس لها قيمة.
وتمُر الأيام ويولد محمد صلي الله عليه وسلم يتيماً، وما هي إلا أعوام وتبرأ روح أمه لبارئها في واقعة مرضية بسيطة، ولكنها إرادة الله أن يكون نبيه المصطفى صبياً وحيداً لا أخ له ولا ولد يعيش من صلبه، حتى لا يأتي في يوم من الأيام من يرتكب إثماً وينسب لنسبه الطاهر الشريف، فنزه الله ثوب نبيه من أدران النفس البشرية ومنحه نعمة البراءة من هوى النفس الإنسانية، بأن حرمه من أغلى عطايا الإنسانية وهي ولد من صلبه، ويتعاظم الابتلاء بأن يُرزق بهم ثم يدفنهم بيديه الكريمتين ودموعه تغالبه، ولكن التسليم بإرادة الله يغلبه.
ولم تنتهي آلام هذا الصبي ذو الست أعوام بوفاة أمه، ولكن تجددت بعد عدة أعوام، عندما فقد جده الذي أغدق عليه بالحنان والعطف ليعوضه عن فقده العظيم لأمه وأبيه، بالرغم من أن حمزة عم النبي كان يماثله في العمر، إلا أن عبد المطلب ابيه وجِد النبي كان يخص حفيده ويميزه بالكثير من الحنو والرحمة، وحمزة هو ابن هالة بنت عم آمنة أم النبي، والتي تزوجها عبدالمطلب في ذات الليلة التي تزوج فيها عبدالله من آمنة.
لذا كلما اشتدت بنا آلام الحياة وجنح بنا الفِكر أن ما نحياه هو درب من الخيال القميئ، فلنتذكر سيرة سيد البشر وما تحمله من ألم عميق، فَقد فَقَدَ الحبيب كل من يُحب، الأب الخلوق والأم الجميلة والجد الحنون، والعم الداعم والصديق المدافع، والزوجة المخلصة والابناء واحد تلو الآخر وهذا ابتلاء لا يفوقه بلاء.
المحطات في حياة خير البشر لا تحصى ولكنها تَذر، فكل خطوة هي درس تركته لنا النبوة، وما من موقف لا يصلح لأن يغير حال أمة، ولكن العِبرة لمن أراد أن يعتبِر، فخاتم الأنبياء إنما جاء ليتم الرسالات التي سبقته، والتي لا يُقبل من مسلم إسلامه إلا لو اعترف بأنبياء الله ورسالتهم، ويُشهِد الله أنه آمن بما إنزل من كتبه وملائكته ورسله، وأن الله لا يفرق بين أحدٍ من رسله، وكل رسالة تكمل ما بعدها حتى أن وصلت بالإسلام لختامها.
وما عُرف المُسلِم إلا مُسلِماً لله مستسلماً لإرادته، يفشي السلام ويَسلَم الناس من لسانِه ويَده، فما أرسل الله نبيه إلا رحمةً للعالمين، ونجاة للبشرية من وسواس شيطانها الآثم اللعين، فحُرم الخمر الذي يذهب العقل والميسر الذي يذهب المال، كما حرم الربا وأكل الميتة والقتل دون حق، قصف المحصنات وشهادة الزور ووأد البنات والزنا وقطع صلة الرحم.
كلها تحريمات جاءت تدريجية وكل منها أفعال تأنف منها حتى الكائنات الحيوانية، فما بالك بأن تأتيها النفس السامية الإنسانية، كما حثَ على وصل اليتيم والسعي في الحياة كأنك ستعيش لأبد الآبدين، وإكرام والديك فهم نجاتك في الدارين، احترام المرأة وتقديرها وهذا ما جاء في القرآن الحكيم، سورة خصها الله لنا نحن النساء ليكرّمنا بقوله الحكيم، ويوصي بنا رسوله في آخر كلمات تركها للناس آجمعين، رفقاً بالقوارير، ولعل حكمة الله أن أول امن آمن وسلم وأسلم وصَدَق من البشر هي السيدة خديجة زوج الرسول، آي أن أول من أسلم كانت امرأة.
ويكفي تلك الرسالة تشريفاً أن ما جاء فيها هو في الأصل مرجعية كل ما يعرف بالقوانين والدساتير المتعلقة بحريات الإنسان والبشرية، فإذا كانت هناك رؤية حاكمة للرسالة الإسلامية فهي في رأيي في حكمة جائت على لسان رسول الله الذي حفظ كتاب الله بكونه أمياً، فسد ثغرة كُل من شكك أنه قد مَس من القرآن حرفاً، عندما أوصى بأن نزرع الفسيلة ولو القيامة بعد ثواني قليلة، وتلك فلسفة الإسلام الأساسية، الحياة بسلام ونماء وما يستلزم ذلك من جهد وعطاء.
كل عام والعالم بخير، فالرسل ليسوا حكراً على دين ولا طائفة من البشر، ولكن حياتهم ورسالتهم متاحة لكل الناس، ومن شاء الإيمان أو لم يشأ تلك حريته، فرب البشر خاطب نبيه بأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، ولو أرادنا الله بذات المرتبة الإيمانية والطبائع النفسية والصفات الجسمانية والملكات العقلية، ما كان أهون من ذلك عليه.
لكن الاختلاف هو سنة الحياة، وفيه يكمن قدر إنسانيتنا وسمونا، بمقدار ما نمتلكه من تسامح وتغافل وفَهم وتقبل لغيرنا، فكل عام والعالم أجمع سالم غير مستسلم، ومُسلمِ دون أن يكون متواكِل، فاللهم صل وسلم وبارك على سيد الخلق محمد المصطفى الحبيب صلاة من القلب تنحل بها العُقد وتنفك بها الكُرب وتكون في السنتنا كالرُطب، وليكُن حُسن خُلقه ونور هديه وسبيل عطائه قبلة تهتدي بها البشر، وفي ميلاده الشريف الذي فاق في عطائه الخيال وكتب للحياة حياة، اكتب السعادة والسلام والمحبة والاخاء والرحمة والهدى والنور والسرور لكل البشر، يا من تُخرج الحياة من قلب الحَجر.