تحل في مثلِ هذا اليومِ 1 أكتوبر من عام 1917م أكتوبر ذكرى تولي الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، مشيخة الأزهر الشريف.
محمد أبوالفضل الجيزاوي
الشَّيخُ مُحمَّدٌ أبو الفضلِ بنُ عليٍّ الوَرَّاقِيُّ الجيزاويُّ المالكيُّ شيخُ الأزهرِ الشَّريفِ، الرَّئيسُ الثَّاني لهيئةِ كبارِ العلماءِ، الَّذي ظهرَتْ في عهدِه أهمُّ قوانينِ تطويرِ التَّعليمِ الأزهريِّ الَّتي تُعَدُّ نواةً لنظامِ التَّعليمِ الجامعيِّ والدراساتِ العُليا في الأزهرِ الشَّريفِ.
وُلِدَ بقريةِ وَرَّاقِ الحَضَرِ التَّابعةِ لمركزِ إمبابة -إحدى مُدُنِ محافظةِ الجيزةِ حاليًّا- عامَ 1263هـ/1847م، والتَحَقَ بالأزهرِ الشَّريفِ، وتتلمذَ على كبارِ مشايخِ عصرِه، ونالَ الشَّيخُ الجِيزاويُّ عُضويَّةَ هيئةِ كبارِ العلماءِ في تشكيلِها الأوَّلِ عامَ 1329هـ/ 1911م، وعُيِّنَ شيخًا للجامعِ الأزهرِ والمعاهدِ الدِّينيَّةِ في 14 من ذي الحجَّةِ 1335هـ/ أوَّلِ أكتوبر 1917م.
التحق الشيخ الجيزاوي بكُتَّاب القرية وهو في سن الخامسة من عمره عام 1269هـ/ 1852م، وأتم حفظ القرآن الكريم عام 1272هـ/ 1855م، ثم التحق بالأزهر الشريف سنة 1273هـ وعمره عشر سنوات.
كما درس الشيخ الجيزاوي العلوم المقررة آنذاك في الجامع الأزهر المعمور مثل: التفسير، والحديث، والتوحيد، والتصوف، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والنحو، والصرف، والعروض، والمعاني والبيان، والبديع والأدب، والتاريخ والسيرة النبويَّة، على يد كبار مشايخ عصره، فأخذ الفقه والحديث على يد الشيخ محمد عليش، والشيخ علي مرزوق العدوي، وتعلم البلاغة وعلم أصول الفقه والمنطق على يد الشيخ إبراهيم السقا، والشيخ محمد الأنبابي، وتلقى التفسير وعلوم القرآن على يد الشيخ شرف الدين المرصفي، والشيخ محمد العشماوي، والشيخ محمد الفضالي الجرواني، ودرس على شيخ الشيوخ العلَّامة الشيخ أحمد محجوب الرفاعي الفيومي، وعلى الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر الشريف، وغيرهم من كبار علماء عصره.
وظلَّ الشيخ الجيزاوي مواصلًا تحصيله للعلوم وحضور دروس العلم بكلِّ جدية حتى عام 1287هـ/ 1870م، وفي هذا العام أمره الإمام الأنبابي بالتدريس فوافق بعد تردد، وبدأ بالتدريس بالجامع الأزهر، وجمع رسالة في البسملة وحديثها المشهور، وابتدأ بقراءة كتاب الأزهريَّة في النحو للشيخ خالد الأزهري، وكان ذلك في أواخر أيام شيخ الأزهر مصطفى العروسي، وقد تابع الشيخ الجيزاوي التدريس بالجامع الأزهر، وكان على دراية بجميع كتب الفقه واللغة وأصول الدين والمنطق الْمُتَداولة قراءتها في ذلك الوقت بالجامع الأزهر، حيث قام بتدريسها لكثير من طلاب الأزهر، وأقبل طلاب العلم على حلقات ودروس العلم للشيخ الجيزاوي؛ فتخرَّج على يديَّه عدد كبير من طلاب الأزهر.
ويعود للشيخ الجيزاوي الفضل في إحياء تدريس كتاب الخبيصي في المنطق؛ إذ قام بتدريسه مِرارًا، ودَرَّس كتاب القطب على الشمسية، وقرأ المطول للسعد التفتازاني، وكتب على شرحه وحاشيته أكثر من خمس وأربعين كراسة، وقرأ كتاب البيضاوي ولم يتمه، وكتب شرحًا على أوائله نحوًا من سبع عشرة كراسة.
أمَّا علم الأصول فإنَّه أفنى فيه عمره؛ إذ أقرأ علم الأصول لست طبقات من كبار طلاب الأزهر الشريف، فقرأ "جمع الجوامع" بالأزهر المعمور ثلاث مرات، و" مختصر ابن الحاجب" بشرح العضد، وحاشيتي السعد والسيد الشريف الجرجاني ثلاثًا أخرى، منها مرتان بالأزهر، والثالثة بجوار ضريح ابن الحاجب بالإسكندريَّة، لما عين شيخًا لمعهدها، وفي ذلك يقول عنه تلميذه العلَّامة الأصولي الكبير الشيخ عبد الله دراز:"وكان في كلِّ مرة من هذه المرات الست، يتخرج من درسه الجم الغفير من العلماء، حتى زاد عدد الرسميين منهم على ثلاثمائة، من بينهم أكثر الجالسين على منصات التدريس في العلوم العالية، والقابضين على زمام المحاكم الشرعيَّة، والمديرين لدفة المعاهد الدينيَّة".
وقد تولى الشيخ الجيزاوي عضوية مجلس إدارة الأزهر مرتين، الأولى في عهد مشيخة الشيخ البشري الأولى، وكان ذلك في ربيع الأول سنة 1317هـ/ أغسطس سنة 1899م، والأخرى في 9 من ذي القعدة سنة 1324هـ/ 24 من ديسمبر سنة 1906م وكان ذلك في أواخر مشيخة الشيخ عبد الرحمن الشربيني، ثم عُيِّن وكيلًا للأزهر الشريف في 18 صفر 1326هـ/ مارس 1908م، وفي 9 ربيع الآخر 1327هـ/ 29 أبريل 1909م تم تعيينه شيخًا لعلماء الإسكندريَّة بدلًا من الشيخ محمد شاكر الذي تم تعيينه وكيلًا للجامع الأزهر .
عضوية هيئة كبار العلماء
ونال الشيخ الجيزاوي عضويَّة هيئة كبار العلماء في تشكيلها الأول عام 1329هـ/1911م وكان ذلك بموجب القرار رقم (10) الصادر في 14جمادى الأولى 1329هـ/ 13مايو 1911م، وفي 14 من ذي الحجة 1335هـ/ أول أكتوبر 1917م عُيِّن الشيخ الجيزاوي شيخًا للجامع الأزهر والمعاهد الدينيَّة، ثم أضيفت إليه مشيخة السادة المالكيَّة وكان ذلك في 20 صفر 1336هـ/ 5 ديسمبر 1917م.
لقد كان الشيخ الجيزاوي مجيدًا في علوم كثيرة كالعربيَّة، وأصول الدين، وأصول الفقه، والمنطق، وقد قرأ فيها على طلابه كتبًا كثيرة وانتفعت به طبقات كثيرة من الطلاب حتى تخرج عليه غالب أهل الأزهر في ذلك الحين، وكان من أبرز تلاميذه الشيخ العلامة الأصولي عبد الله دراز، والعلامة الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر فيما بعد، والشيخ محمد بن محمد المراغي المالكي الجرجاوي، والشيخ أحمد بن الصديق الغماري، والمراغي والغماري كلاهما أجيز من الشيخ الجيزاوي رحمه الله.
أمَّا الـتأليف والتصنيف، فقد ترك لنا فضيلته مجموعة من المؤلفات والإجازات والحواشي والشروح والتعليقات والرسائل، منها:
إجازة منه إلى الشيخ محمد بن محمد المراغي المالكي الجرجاوي، أجازه فيها بما في ثبت الشيخ محمد بن محمد الأمير الكبير.
كتاب تحقيقات شريفة وتدقيقات منيفة، وهي حاشية على شرح عضد الملة والدين، وحاشيتي العلَّامتين السعد والسيد الشريف الجرجاني.
الطراز الحديث في فن مصطلح الحديث.
حاشية على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه.
كتب على شرح المطوَّل وحاشيته ما يقرب من خمس وأربعين كراسة "ملزمة".
تعليق على أوائل تفسير البيضاوي.
رسالة في البسملة وحديثها المشهور.
أهم الإنجازات والمشاركات الوطنية
المشاركة في إعداد قانون إصلاح الأزهر رقم 10 لسنة 1911م الذي نشأت بموجبه "هيئة كبار العلماء".
رئاسة لجنة توحيد الكتب الدراسيَّة بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى في 10 جمادى الآخرة 1329هـ/ 7 يونيه 1911م.
عضويَّة لجنة فحص الكتب التي تؤلف حديثًا بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى في 29 جمادى الآخرة 1329هـ/ 26 يونيه 1911م.
إصدار قانون عام 1342هـ/ 1923م الذي أسهم بشكل كبير في إصلاح الأزهرتضمن العديد من البنود أهمها:
تخفيض كلِّ مرحلة من مراحل التعليم بالأزهر إلى أربع سنوات.
إنشاء قسم للتخصصات المختلفة في الأزهر (الدراسات العليا)، ويتضمن العديد من الأقسام مثل: التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والنحو والصرف، والبلاغة والأدب، والتوحيد والمنطق، والتاريخ والأخلاق.
تأليف لجنة للإصلاح عام 1344هـ/1925م التي كان من رأيها أنَّ المرحلتين الابتدائيَّة والثانويَّة هما مرحلتا ثقافة عامَّة، ويجب أن تُدرس فيهما العلوم الرياضيَّة التي تدرس بالمدارس الابتدائيَّة والثانويَّة بوزارة المعارف، وأنَّه يكفي الاهتمام بالعلوم الدينيَّة والعربيَّة في الأقسام العالية والتخصصات، ورأت اللجنة لذلك وجوب فتح أبواب مدارس وزارة المعارف أمام المتخرجين في الأزهر للتدريس فيها.
معاصرته لأحداث الثورة المصريَّة عام 1337هـ/1919م وما تلاها من صراع عنيف بين الشعب ومستعمريه، وبين الأحزاب السياسيَّة، وبين الزعماء والملك، ومشاركته في انطلاق الثورة الشعبيَّة من ساحة الأزهر واشتراك رجال الدين المسيحي مع كبار علماء الأزهر في مقاومة الاحتلال الإنجليزي، حيث كان الجامع الأزهر هو مركز قيادة الثورة، وكان علماؤه قادتها، وكان طلابه وقودها، وكان منبره الموجِّه لها بما اعتلاه من رموز تمثل كافة ألوان الفكر والثقافة والقساوسة والمرأة المصريَّة، وحينما فشلت كلُّ محاولات الإنجليز في منع الاجتماعات والتظاهر في الأزهرـــ وهى تعلم علم اليقين أنَّ الأزهر هو مركز الثورة ـــ قامت دارُ الحماية باستدعاء الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى، شيخ الجامع الأزهر في 2 أبريل 1919م، وطلبت منه إغلاق أبواب الأزهر، فرفض محتجًّا بأنَّه مسجد تقام فيه الشعائر الدينيَّة، وليس له أن يوصد أبوابه في وجوه المصلين، فطلبت أن يفتحه في مواعيد الصلاة فقط فرفض، وظلَّ مفتوحًا في كلِّ وقت كما كان من قبل، وحينما علم البريطانيون بنبأ الاجتماع الكبير الذى ينتوى الجمهور إقامته في الأزهر يوم 5 أبريل لسماع الخطب، وعرض الحالة الحاضرة في البلاد، وضعت على منافذ الأزهر القوات البريطانيَّة المسلحة، فرأى منظمو الاجتماع أن لا سبيل إلى انعقاده في الأزهر الشريف، فقرروا انعقاده في مسجد ابن طولون، واستطاع الشيخ الإمام أن يقود سفينة الأزهر في غمار هذه الأمواج والعواصف إلى بر السلامة والأمان.
ولكلِّ هذه الجهود المباركة التي بذلها الشيخ في خدمة الأزهر تعليمًا وتدريسًا وإصلاحًا وعطاء مُنِح كسوة التشريف العلميَّة من الدرجة الأولى في 19 شوال 1321هـ/ 7 يناير 1904م، ثم مُنح الوشاح الأكبر من نيشان النيل في شوال 1339هـ/ يونيه 1921م.
وبعد رحلة عمريَّة قاربت الثمانين عامًا، كانت حافلة بالعطاء موَّارة بالأحداث، أسس فيها الشيخ الجيزاوي لنشأة الجامعة الأزهريَّة، فضلًا عن مؤلفات علميَّة رصينة، لقى الشيخ ربه في 15محرم 1346هـ الموافق 14 يوليو 1927م، في القاهرة، ودفن بها، وبقي منصبه شاغرًا مدة سنة تقريبًا إلى أن تولى مشيخة الأزهر الشيخ المراغي رحمه الله رحمة واسعة، وأنزله منازل الأبرار.