حتى لو اختلف البعض أو أبدى عدم رضا إزاء بعض الملفات الداخلية، فلا جدال في حقيقة متفق عليها تقريبًا بين قطاع واسع من المصريين، لولا 30 يونيو، لكان وضع مصر اليوم مختلفًا تمامًا، بل وربما كارثيًا بالنظر إلى الانهيارات والصراعات التي اجتاحت الإقليم، وإلى مشروعات إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط التي بدأت خططها بالفعل تحت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، واستُكملت لاحقًا بأدوات متعددة وبآليات تنفيذ في الفترة الثانية من إدارة الرئيس دونالد ترامب.
وبالتالي حين نتأمل السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو 2013 في ضوء مدارس الفكر السياسي والنظريات المفسرة للعلاقات الدولية، نجد أنفسنا أمام حالة ثرية لتحليل كيف تقاطع الإدراك الوطني لمفهوم الأمن القومي مع ضرورات تكييف السياسات الخارجية وفق بيئة دولية وإقليمية متغيرة بشكل متسارع وتفرض موائمات وتفاعلات متباينة .
إن النظريات الكبرى للعلاقات الدولية الواقعية، والليبرالية، والبنائية تقدم أطرًا لفهم نهج ومقاربة الدول في سياستها الخارجية، وفي حالة مصر، يمكننا أن نرصد مزيجًا دقيقًا بين منطق الواقعية السياسية (Realpolitik)، حيث الأولوية القصوى لحماية الدولة وبنيتها، وبين توظيف أدوات الانفتاح والتعاون الاقتصادي المتنوع على نحو أقرب إلى الطروحات الليبرالية التي ترى أن تشابك المصالح الاقتصادية يُقلّل من فرص النزاعات.
وعليه ، برزت عدة مسارات للتحرك مثلت أولويات الدولة المصررية، منها أولوية بقاء الدولة (State Survival)فوفق المنظور الواقعي، تعتبر الدولة الوحدة المركزية للنظام الدولي، وتتمثل غايتها العليا في ضمان بقائها وصيانة سيادتها؛ وهو ما انعكس جليًا في مقاربة مصر بعد 30 يونيو، حيث أعادت ترتيب أولوياتها الخارجية لتجعل من دعم استقرار الدولة الوطنية في الإقليم حجر الزاوية في سياستها. فتدخلت دبلوماسيًا، بل أحيانًا أمنيًا غير مباشر، لدعم الجيوش الوطنية في ليبيا، والسودان، واليمن، مع إصرارها على رفض سيناريوهات التقسيم أو الانهيار التي تهدد وحدة تلك الدول، إدراكًا لما يمثله ذلك من امتداد مباشر لمخاطر أمنية على الداخل المصري.
إلي جانب نهج تنويع الشراكات كأداة لموازنة القوة (Balancing) فمن منظور الواقعية الكلاسيكية الجديدة (Neoclassical Realism)، تلجأ الدول متوسطة القوة إلى تنويع شراكاتها الدولية لتفادي التبعية وللحد من ضغوط القوى الكبرى، وهو ما فعلته مصر عبر الانفتاح على روسيا والصين وعقد صفقات عسكرية وتنموية واسعة، إلى جانب المحافظة على مواطن التعاون التقليدية مع الولايات المتحدة وأوروبا، وقد منحت هذه السياسة قدرة مناورة أكبر واتخاذ موقف حاسم وحازم في ملفات حيوية مثل القضية الفلسطينية وفلسفة التهجير ، سد النهضة، وصفقات التسليح، وتوازنات شرق المتوسط، وعلي الجانب الأخر بناء الهوية والمكانة في النظام الإقليمي.
وبالنظر إلي أن مصالح الدول لا تحدد فقط عبر التوازنات المادية، بل كذلك عبر الهويات والادراك. وقد سعت مصر في العقد الأخير إلى استعادة مكانتها بوصفها الدولة المركز عربياً وإفريقياً، بدا ذلك في تصدّرها جهود الوساطة في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي قيادة مبادرات داخل الاتحاد الإفريقي، أذ أعادت مصر بعد 30 يونيو دائرة الاتصال مع إفريقيا بقوة، بعد غياب طويل انعكس في خسارة مصالح استراتيجية، فقد قام السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بسلسلة زيارات مكثفة تجاوزت 35 زيارة ولقاء مع قادة الدول الإفريقية منذ عام 2014، مما أعاد مصر لاعبًا مهمًا في ملفات القارة، خاصة في مجالات الأمن المائي ومشروعات البنية التحتية والطاقة، خاصة ان هذه السياسات لم تخدم مصالح مادية آنية فقط ، بل تعزز صورة مصر كفاعل إقليمي لا غنى عنه.
فضلا عن ذلك، اتسم النهج المصري بعد 30 يونيو بقدر عالي من البراغماتية قائم على تنوع الدوائر ، وعدم الامتثال لتحالفات تقليدية فقط مع القوى الغربية متجنبًا الانخراط في محاور صدامية قد تستنزف قدرات الدولة، فحتى مع تطوير علاقات وثيقة مع الشرق كتحالف روسيا والصين، فلم يتم انتهاج ساسة صدامية فيما يخص علاقاتها المؤسسية بالولايات المتحدة أو بالاتحاد الأوروبي، بل استمرت في شراكات اقتصادية وأمنية واسعة وانخرطت مصر في تكتلات إقليمية ودولية جديدة مثل “بريكس+”، في سياق عالم متعدد الأقطاب، في الحقيقة تعكس هذه السياسة فهمًا دقيقًا لديناميات القوة في النظام الدولي، حيث تجنب الانحياز الأحادي يمنح الدول متوسطة الحجم هامشًا أوسع لحماية مصالحها.
ختاما ما بين النظرية والتطبيق ،فإن تحليل النهج السياسي الخارجي المصري بعد 30 يونيو يكشف عن مقاربة متوازنة تمزج بين هاجس حماية الدولة ، وبين توظيف الأدوات الاقتصادية والتحالفات المتعددة مع بُعد هوياتي ودورٍ إقليمي تسعى الدولة المصرية إلى إعادة ترسيخه
ويمكن القول ، إن السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو تقدم نموذجًا لكيفية تكييف الاستراتيجيات الوطنية مع التحولات الكبرى في بنية النظام الدولي، بما يضمن استقرار الدولة ومصالحها في بيئة إقليمية شديدة السيولة وقد ظهر انعكاس هذه السياسة الجديدة في عدد من الأزمات الخارجية الأخيرة، حيث حاولت بعض الأطراف فرض أوراق ضغط على مصر أو ابتزازها سياسيًا، إلا أن هذه السياسة الخارجية التي حرصت على تنويع الشراكات والاعتماد على منطلقات مصرية خالصة، ساعدت الدولة على امتلاك أوراق مناورة مهمة، جعلت قرارها وتحركها السياسي الخارجي نابعًا من معتقداتها ومصالحها القومية، لا مجرد استجابة لضغوط أو إملاءات.