القوى الناعمة هي أحد عناصر القوى الشاملة للدول فهي الذراع الطولي للهيمنة والحفاظ على الأمن القومي، والتاريخ يقول إن مصر تتفرد بقوتها الناعمة من حضارة أذهلت العالم ، وفنون صاغت الوجدان ، ودبلوماسية تليدة نصبتها عمود خيمة سياسة المنطقة، ومؤسسات دينية روحانية تعد قبلة للمؤمنين، وأدباء سطروا أجمل الروايات ، وشعراء سحروا أفئدة العشاق ، فكلها قلائد ثمينة تزين تاج العلاء فى مفرق الشرق .
الصراحة تقتضي القول أنه خلال العقدين الماضيين جرى مخطط لتدمير عناصر القوى الناعمة وجرح الذوق العام وسرقة التاج وسحب البساط ،فتراجع الثمين وتقدم الغث ، فى مذبحة بطلها الإهمال،فلم تعد هناك فرق كشافين لاكتشاف المواهب في شتى ربوع المحروسة في كافة المجالات وتراجع دور ماسبيرو الذى كان رمانة الميزان في معركة الوعى.
سحب سجادة القوى الناعمة بدأت مع فضيحة سرقة التراث السينمائى والغنائى ثم موجة أفلام المقاولات وسينما المضحكين الجدد مروراً بأفلام البلطجة ودراما الإعلانات والزيت والشيبسى ، ومعه تدمير المسرح فنسج العنكبوت خيوطه حتى انطفأت أنواره لصالح مسرح الهلس والرقص وصولاً إلى اغانى" بوس الواوا" "وانت مبتعرفش"، وزحف الفيروس إلى جسد الرواية فأنزوى جيل المبدعين ، وخيم الظلام على قصور الثقافة في مخطط لمسح هوية أمة وتجريدها من تاجها ومصدر قوتها.
دولة التلاوة والتي تعد المحروسة مهد الحناجر الذهبية، لم تكن أحسن حالاً وأصابها ما أصاب سابقيها، وأفرزت انصاف مقرئيين ،وغربت شمس مجدها بعد جفاف المنابع بتراجع كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم،فسحب مشايخ الخليج البساط بعد أن بارت أرض التلاوة فى المحروسة.
وخلال السنوات الماضية كانت معركة استرداد عناصر القوى الناعمة على رأس أولويات الدولة المصرية ضمن استراتيجية بناء الإنسان بعد سنوات من بناء الحجر ، فكان شعارها نسف التشوهات السابقة، فلا يستقيم بناء الإنسان دون تحسين الذوق العام، عبر فن هادف يقدم رسالة، وخطاب دينى عصرى لإستعادة مكانة الكنانة الروحية ، فكان مشروع "كابيتينو مصر "لتقديم أبطال فى الرياضة ، وبرنامج "الدوم" لإكتشاف المواهب في الغناء، والتمثيل، والتقديم التليفزيوني، والفنون التشكيلية والرسم والنحت والعزف الموسيقي والشعر ، ثم مسابقة دولة التلاوة لإخراج جيل جديد من المقرئين.
الحقيقية أن مسابقة دولة التلاوة التى تنظمها وزارة الأوقاف بالتعاون مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، هى حقنة إفاقة لإستعادة الريادة فى جسد دولة التلاوة بعد سنوات الصيت، منذ زمن الحناجر الذهبية من الآباء المؤسسين أمثال الحصرى والشعشاعى والمنشاوي والطبلاوى وعبد الصمد،ممن سحروا بعذوبة أصواتهم الألباب ورقت لها الأفئدة من شتى بقاع الأرض ، فصيتهم لامس السماء وبفضلهم تعاظمت مكانة مصر كمركز إشعاع ديني، فالمسابقة هى بعث جديد، وكمن ألقى حجر فى بحيرة مياة راكدة ،فهى منصة لإكتشاف "الجواهر والكنوز" من أصحاب الحناجر الذهبية.
المقولة المتوارثة تقول إن القرآن الكريم نزل في الحجاز وقرأ في مصر وكتب في تركيا وفسر في الهند، وأعتقد أنه خلال السنوات المقبلة سيكون لدينا حناجر ذهبية فى التلاوة تفيض جمالًا وابداعٱ يملأون الدنيا خشوعًا ، ليستمر صوت القران يصدح فى ارض الكنانة.