المدن الجديدة تبحث عن سكان.. 24 مدينة بها نسبة إشغال 20 % فقط.. و"الإسكان المتميز" يتجاهل احتياجات محدودي الدخل
- حجاج: 5 أسر تسكن الفيوم الجديدة.. و10 أفراد بـ "أسوان"
- التوسع في وحدات الإسكان المتميز لا يتناسب مع طبيعة احتياجات الشعب
- أبو العطا: المدن الجديدة تنشأ حول البؤر الاستثمارية واقتراحها كحل لأزمة الإسكان لن يجدي نفعا
- محرم: المدن الجديدة أنشئت بطريقة "صماء" لا تلبي احتياجات المرأة والأسرة
أكد خبراء التخطيط والاسكان أن المدن الجديدة المترامية على أطراف المحافظات المصرية في حاجة الى عناية خاصة من الحكومة الفترة المقبلة لتحقيق الهدف المراد من انشائها منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات ، في تخفيف الضغط السكاني عن المدن المأهولة بالسكان والتي أصبحت عرضة لانتشار العشوائيات وتآكل الرقعة الزراعية.
وأجمع الخبراء على ضرورة تدعيم هذه المدن بالمرافق على الوجه الأكمل وتسهيل شبكات الطرق والنقل ، وفتح مجالات أكثر للاستثمارات بها ، فضلا عن الخدمات الترفيهية العادية لجذب السكان من حدائق ومتنزهات ونواد وغيرها.
في البداية قال الدكتور رضا حجاج استاذ التخطيط العمراني وهندسة النقل بجامعة القاهرة ، والخبير السابق بالأمم المتحدة إن المدن الجديدة فشلت في استيعاب العدد المستهدف لها من السكان بسبب فشل السياسات الاسكانية في مصر منذ بداية انشائها منذ السبعينيات مع نشأة معهد التخطيط.
وأوضح حجاج أن المدن الجديدة في مصر وعددها 24 مدينة مقسمة على 3 أجيال لم تبلغ نسبة الاشغال في معظمها 20 % ، فمدينتا العاشر من رمضان و6 أكتوبر وهما من مدن الجيل الاول وأكثرها استيعابا للسكان يبلغ عدد السكان بهما ما يقرب من نصف مليون نسمة وهو أقل بكثير من المستهدف ، بينما مدينة مثل أسوان الجديدة تم انشاؤها بتكلفة 2 مليار جنيه ولا يوجد بها حتى الآن سوى 10 أفراد فقط ، والفيوم الجديدة والتي من المفترض ان تستوعب 100 ألف نسمة ولا يسكنها سوى 5 أسر فقط.
وأرجع حجاج السبب الأكبر في ذلك لعمليات الاتجار في الأراضي وتمليك الأراضي بالمدن الجديدة للتجار بأسعار زهيدة ، ليبيعوها بعد ذلك بأضعاف قيمتها ، ومن ثم يتلاشى الهدف من اقامة المدن لحل ازمة الاسكان.
وقال ان هناك 5 أسباب أفشلت تجربة المدن الجديدة في مصر ، على رأسها قلة توافر فرص العمل في هذه المدن ، فمن الطبيعي أن لا ينزح السكان الى مكان جديد تاركين أعمالهم وراءهم كما انه من الصعوبة أن ينتقل ساكن المدينة الجديدة من وإلى محل عمله يوميا ، ناهيك عن مشاكل الأمن والمواصلات والطرق في الوقت الراهن.
وأضاف أن المشكلة الثانية هي مشكلة المواصلات العامة والتي لم تدرس جيدا من قبل القائمين على انشاء هذه المدن ، ولم تنشأ المواقف الخاصة لهذه المدن في المدن الرئيسية بالمحافظات حتى أصبح السفر اليها صعبا، خاصة في الأوقات المتأخرة والليلية مما فصلها عن حيز العمران ، وأوضح أن السبب الثالث هو غياب الخدمات الأساسية ، والمقصود بها هنا الخدمات الأساسية لكافة الشرائح ، التي تناسب الفقير والغني ، لأن ازمة الاسكان تتعلق بالطبقة الوسطى والدنيا أكثر من الطبقة العليا ، فالخدمات يجب أن تتفق مع امكانات الفقير الذي لن يناسبه مثلا فتح كافيه أو مول بأسعار مرتفعة وبالتالي ستتحول المدن الى "طبقية" ولن تعالج أزمة التكدس والاكتظاظ بالمدن الرئيسية.
وقال ان السبب الرابع وهو "الاتجار بالأرض والتمليك" ، أي استغلال الاراضي بالمدن الجديدة وتمليكها للمستثمر الذي يستغلها بالطريقة التي تناسبه والتي قد تتعارض مع سياسة الاسكان بالمدينة ، وأوضح أن التوسع في تمليك الأراضي بالمدن الجديدة حولها الى "مفرخة للفلوس" ومورد دخل وانتفى تأثيرها الايجابي على المدى البعيد.
وقال إن السبب الخامس والأهم هو عم وجود رؤية لدى الجهات المسئولة ، أو سياسة ناجحة للاسكان في مصر من فكرة انشاء المدن.
وأكد حجاج أن متوسط المستهدف من السكان بالمدن الجديدة 20 مليون نسمة ، أي انه توجد 5 ملايين وحدة سكنية ، وأزمة السكان في مصر تنحصر الآن في 4.6 مليون نسمة فقط ، وبالتالي المشكلة ليست في قلة الوحدات بقدر ما تكمن في توزيع الوحدات وسياسات التسكين ، والتي تتوسع في وحدات الاسكان المتميز على الرغم من الاحتياج للفقراء ، فوحدات المدن الجديدة والتي تصل 100 الف وحدة ، سعر الواحدة منها 180 ألف جنيه ولا تجد من يسكنها للأسباب السابقة ولارتفاع سعرها بالنسبة لأصحاب الدخول البسيطة والمتوسطة ، قد توفر 20 مليار جنيه للدولة تستغلها في انشاء مصانع لتشغيل الشباب.
وعن فكرة نقل بعض مؤسسات الدولة الى المدن الجديدة لتخفيف الضغط عليها ، قال أستاذ التخطيط العمراني إن هناك مؤسسات لا داعي لوجودها في القاهرة ، ولكن من الصعب أن تنقل موظفيها وعمالها وادارييها وجميع القائمين عليها الى هناك لارتباط اسرهم بهم والتحاق ابنائهم بالمدارس والجامعات، فكيف تقنع مرتاد جامعة القاهرة على النقل الى جامعة السادات الصغيرة والتي لا تضم كليات بكفاءة القاهرة ، الأمر صعب لكنه يحتاج الى دراسة وتأهيل حتى نستطيع نقلهم.
واقترح حجاج نقل المؤسسات الأكثر تأثيرا في السياسة والإعلام أولا كمؤسسة الرئاسة مثلا ، وهي التجربة التي اتبعتها دول كثيرة لتنمية مدنها الجديدة كالهند في نيودلهي والصين وجنوب افريقيا والبرازيل ونجحت في الترويج لمدنها اعلاميا وسياسيا حتى اصبحت مناطق جاذبة للسكان والسياحة ايضا ، أما القاهرة في مصر ما دامت هي فقط نقطة الجذب فلن تنجح المدن الجديدة في حل ازمة الاسكان.
وضرب حجاج مثالا بشركة ما قررت أن تفتح فرعا لها في مصر بواقع 500 موظف أجنبي و100 موظف محلي على 500 م2، وبحثت عن مدينة خضراء مستدامة للفرع المراد انشاؤه وتسكين العاملين وتوفير الخدمات لهم ، واصطدمت بأن مصر لا يوجد بها مدينة خضراء مستدامة ، وبذلك خسرت استثمارات أجنبية بمليارات.
وأوضح أستاذ التخطيط العمراني بجامعة القاهرة أن دراسة أجريت حول هذا الموضوع لاستبيان وجود مناطق خضراء مستدامة صالحة لاقامة المجتمعات العمرانية في الشرق الأوسط ، وكانت دبي الأولى وتركيا في المركز الثاني والأردن جاءت ثالثا بينما مصر احتلت المرتبة العاشرة.
وعن العلاج المفترض ان تتبعه الجهات المسئولة لرفع كفاءة المدن الجديدة وتصحيح العوار بها قال حجاج ، ان العلاج يكون على 3 محاور ، الأول يكون بايقاف أي مدينة جديدة حتى وضع سياسات اسكان ناجحة او رؤية مستقبلية يحددها الخبراء وليس المقاولون ، وقال ان المخطط القادم يتضمن انشاء 44 مدينة مليونية بنهاية عام 2052 بدأت بمدينة العلمين المليونية ومدينة مليونية اخرى شرق بورسعيد ، فيجب وقف اي توسعات أو انشاءات جديدة لحين استيعاب هذه المدن 75 % على الأقل من طاقتها.
والمحور الثاني يكون بعلاج أسباب عدم الذهاب للمدن الجديدة ، وهي الخمسة أسباب المذكورة سلفا وذلك بتوفير فرص العمل والمواصلات العامة والخدمات الأساسية لكل الطبقات ، ومحاربة الاتجار بالأراضي، والمحور الثالث خاص بالنقل العام حيث انتقد حجاج الاهتمام بالقاهرة والجيزة فيما عداها من محافظات وجه بحري والصعيد والتي تئن من مشكلات النقل حيث لا توجد رؤية عادلة لتخصيص نقل عام جيد بالمحافظات.
وذكر حجاج أن نفق الأزهر تم انشاؤه بتكلفة 3 مليارات جنيه ، بينما عدد الكباري في 6 مدن بالصعيد 3 كباري فقط ، وتحتاج محافظات الصعيد الى 6 كباري على الأقل للتغلب على مشكلات المرور بتكلفة اجمالية 1.2 مليار جنيه أي أقل من نصف تكلفة نفق الأزهر ، فالعدالة في هذا الجانب ستساهم بشكل كبير في حل أزمة الاسكان.
وأكد المهندس خالد أبو العطا رئيس جهاز مدينة السادات أن الدولة تتوسع بقدر الامكان في تنفيذ مشاريع الاسكان ، والمشكلة ليست في المدن الجديدة في حد ذاتها نظرا لتوافر شقق سكنية كثيرة بها ، المشكلة في تكلفة الوحدات ، فالحد الأدنى من التكلفة لا يناسب شرائح كثيرة في المجتمع المصري وعادة تكون هذه الشرائح جزءا كبيرا من أزمة الاسكان في مصر ، وأضاف أن كثيرا من المتقدمين للحصول على الوحدات في المدن الجديدة يريدون الحصول عليها بسعر أقل من التكلفة إما لأنهم لا يقدرون على ثمنها أو بغرض المتاجرة لبيعها بعد ذلك.
وقال أبو العطا أن طبيعة الساكن في المدن الجديدة تختلف كليا عن غيره ، فالساكن في مدينة مثل السادات يرتبط بها بسبب عمله القريب منها أو بداخلها ، ومن الصعوبة أن تجد ساكنا بها يعمل في مدينة غيرها ويتحمل أعباء ومشاق السفر يوميا ، الا فيما ندر كبعض السكان في أكتوبر ، إذن فالمدن الجديدة قائمة بذاتها وليست حلا مطروحا من البداية أو طوق نجاة لحل أزمة الاسكان باعتبار أن الإقامة بها مرتبطة بمحل العمل.
وعن تجربة مدينة أكتوبر قال أبو العطا أنه يتمنى ان يحذو الجميع حذوها وأن تتكرر في كل المحافظات ، على الرغم من أنها منذ البداية كانت تطرح فيها الأراضي بأسعار زهيدة قد تصل أحيانا لعشرة جنيهات للمتر الواحد ، حتى وصلت فيها التنمية الى مرحلة متقدمة بفضل الاستثمارات التي نشأت بها ومشاريع الإسكان والمولات الضخمة والكومباوندات السكنية والجامعات ومدينة الانتاج الإعلامي حتى أصبحت مدينة متكاملة ، وأضاف أن التطور السريع بها أغفل نظر المسئولين عن مشكلات واجهتها فيما بعد مثل مشكلة الزحام على المحور وهي كارثة جعلتها شبيهة بالقاهرة.
ويرى أبو العطا أن الحديث عن مشكلة الإسكان أو مشاكل المدن الجديدة حديث متشعب ، وأنه يجب تحديد طبيعة المشكلة من قبل الدولة حتى يتم معالجتها على الوجه الأمثل ، وأن الربط بين أزمة الإسكان والمدن الجديدة على أنها حل له لن يجدي نفعا ، لأنها مجتمعات تنشأ حول البؤر الاستثمارية وتخدمها المناطق الصناعية.
ويرى الدكتور عادل ياسين محرم أستاذ التخطيط والعمارة البيئية بجامعة عين شمس أن المدن الجديدة أنشئت بطريقة "صماء" ، بمعنى أنها مبان وجدران فقط بلا روح أو مساحات خضراء أو نواد او غيرها من المظاهر التي تجذب اليها السكان ، لذلك تم انشاء المدن الجديدة القريبة من القاهرة ومع ذلك لم يقل الضغط السكاني على القاهرة لما تتميز بها من وجود هذه الخدمات بخلاف المدن الجديدة.
وقال محرم ان التأسيس لهذه المدن أهمل احتياجات المرأة ، فهي صالحة للرجل أو الشاب الذي يعمل بها أو بالقرب منها بعكس المرأة التي تنجذب الى المجتمعات الأكثر خدمات وأسواق ومدارس وجامعات متنوعة وملاهي وحدائق عامة لتستوعب أطفالها، بعيدا عن جو الحياة المنغلقة ، وربط محرم نجاح المدن الجديدة بالنظر الى احتياجات المرأة أولا لأن الأسرة تنشأ حولها وبالتالي تتكون المجتمعات العمرانية بتجمع أكبر عدد من الأسر.
ويرى محرم أنه لا يمكن القياس على مدينة أكتوبر القريبة من القاهرة لما لها من طبيعة خاصة حيث انتشرت بها الخدمات والمولات التجارية ومشاريع الإسكان والاستثمارات العقارية بشكل سريع ، غير انها لم تجذب اليها الأسر المصرية بالشكل المراد تحقيقه منذ البداية ، فبدأت باستئجار الشقق من قبل الشباب والراغبين في الزواج في بداية حياتهم وذلك بسبب ضيق مساحات الشقق التي لا تستوعب أسرة كاملة.
وأضاف أن انشاء الجامعات بأكتوبر كان له مفعول السحر في تحول المدينة من "صماء" الى مدينة حية غير أنها لا زالت بحاجة الى تدفق الأسر اليها لتصبح مجتمعا عمرانيا متكاملا.