الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الحقيقة المجتمعية والنظم التسلطية الزائلة


تزداد حالة الفوضى تعتيمًا وهي التي تنتشر على المنطقة كسحابة ملبدة تنبئنا بأيام عجاف وتلتحفها أعاصير ورياح صرصر. حالة تعيد ذاتها بشكل دقيق بتفاصيلها وترسم ملامح القرن الذي نعيشه، مثلما حدث في بداية القرن المنصرم والذي كانت من نتائجه أهوال ودمار حل على المنطقة نتيجة جشع ونهم القوى الناهبة لخيرات المنطقة لتزداد ثروة وثراء على حساب شعوب المنطقة بكل مكوناتها. كان التقسيم والحربين العالميتين وما تبعهما من حالة الخنوع والذل للمجتمعات تحت مسمى الدولة القومية بشقيها القوموي والدينوي والتي ما هي إلا الولد الشرعي للمذهب الليبرالي الذي هو بنفس الوقت الدين الرسمي للحداثة الرأسمالية التي نعيش بين مسننات المصطلحات التي أفرزتها وحقنتنا بها حتى باتت من المقدسات.

البحث عن الحقيقة في حالة الفوضى التي نعيشها يلزمها ثورة بحد ذاتها، ثورة تحطم ما كنا نؤمن به واعتبرناه من مسلمات الحياة وبديهياتها اليومية. لكن في حقيقة الأمر لم تكن إلا جرعات مخدرة تم تحضيرها بعناية فائقة في مختبرات الحداثة الرأسمالية وراحت تجربها علينا وهي تتفنن في كيفية وزمن تحنيطنا وتقزيمنا وإخصائنا ثقافيًا واخلاقيًا ومجتمعيًا وقبل كل شيء فكريًا.

وها نحن الآن ندفع فاتورة حُسنُ نيتنا في تصديق النظم المتربعة والمتسلطة على رقاب الشعوب في المنطقة، والتي – أي النظم – ما هي إلا أدوات وظيفية تنفذ ما يُطلب منها بكل دقة من أجل سلب ونهب خيرات الوطن وجعل الشعوب فقيرة لا همَّ لها سوى تأمين لقمة العيش وبعض من الكرامة. وحين ينتهي دور هذه النظم تعمل القوى الرأسمالية على البحث عن بديل لها يكون أكثر طاعة وولاء وخنوعًا، وهذا ما نراه ونعيشه تحت ما سمي زورًا بـ "الربيع العربي"، الذي لم يكن سوى شتاءً قاسيًا وزمهريرًا على شعوب المنطقة التي لم تكن مستوعبة ما كان يُحضر لها من ويلات ودمار وخراب تحت شعار نيل الحرية والكرامة.

قطر وتركيا اللتان موَّلتا الارهاب والارهابيين وقامتا على دعمه لوجستيًا وعسكريًا وعتادًا منذ سبع سنوات ولم تتوانَ البتة عن قتل الشعوب تنفيذًا لأوامر آلهة الحداثة الرأسمالية. ها هي الدولتان ستدفعان جراء ما اقترفتا من جرائم بحق المدنيين الأبرياء من تهجير وقتل وتخريب ودعم للارهاب والارهابيين.

لن نبكي أبدًا على ما سيحصل لقطر وتركيا من زلزال سيزعزع أركان هاتين الدولتين الارهابيتين وأن كل ما سيحصل بهما ما هو إلا نتيجة ما زرعوه في جغرافيا الغير والآخر، ومؤكدًا أنهما لن يحصدا سوى العلقم والشوك والحنظل وأن التاريخ سيقول كلمته يومًا ما وإن طال.

ستدور مسننات التاريخ الحقيقي وستحطم كل من جار على شعبه وظلمهم إرضاءً لحفنة من سماسرة الدم والحروب الذين استأذبوا على الشعوب وجعلوهم يعيشون جهنم وهم أحياء. ستذهب النظم والآلهة التي نصبت وجعلت من نفسها ظلَّ الله على الأرض وستسقط الأقنعة وتظهر عوراتهم في آخر المطاف. لأن الحقيقة لم تكن أبدًا في أي يوم بيد الحكام المتسلطين على رقاب الشعوب، بل كانت وما زالت مخبأة في النظام المجتمعي الذي هو أقدم بكثير من نظم الآلهة المدنية.

البحث عن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها بالأساليب القديمة التي وضعتها لنا العلوم الوضعية التي جزأت المجتمع إلى أشلاء متناثرة كما فعلت بالعلم والعلوم التاريخية والعلمية والاجتماعية. وعلينا أن نبحث عن الحقيقة في نفس المكان الذي فقدناها وليس في جغرافيا أخرى.

ولن نجد الحقيقة في أوروبا ولا في امريكا أو مكان آخر، لأن الحقيقة مخفية في تاريخنا وحاضرنا ومجتمعنا. وعلينا أن نعيد دراسة التاريخ من جديد ليس على أنه مجرد أرقام في أيام حدث فيها شيء ما، بقدر ما ندرك الحقيقة المجتمعية في ذاك التاريخ.

مثلما قال السيد عبد الله أوجلان "التاريخ مخفي في حاضرنا ونحن مخفيون في بداية التاريخ"، وعليه أن الحقيقة مخفية في تاريخنا وذاتنا التي اغتربنا عنها وذهبنا نبحث عنها عند الاخر والغير، كما فعل جلجامش في ملحمته حينما ذهب يبحث عن سر وحقيقة الخلود عند اتونبشتم وعاد بخفي حنين بالرغم من كل محاولاته، وأدرك جلجامش الحقيقة ولو بعد حين أنها مخفية في خدمة المجتمع والانسان وعليه ذهب جلجامش وعمل على إعمار مدينته أوروك ووهب للشعب كل مستلزمات العيش الرغيد والكرامة وبهذا لمع اسم جلجامش حتى راهننا، وأدرك جلجامش أن الحقيقة المجتمعية هي الباقية بينما حقيقة التسلط زائلة.

والتاريخ ليس شيئًا من الماضي علينا نسيانه، بل التاريخ هو حاضرنا ومستقبلنا وهو اللحظة التي نعيشها. وغير ذلك لا يعتبر إلا هراءً ومضيعة للوقت وخداعًا للذات.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط