الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب: لاشيء من أجلها

الكاتب الصحفي / رضا
الكاتب الصحفي / رضا نايل

في أحد صباحات شهر ديسمبر كان الضباب الكثيف يحجب الشمس، فلا تستطيع أشعتها أن تنفذ من طبقاته المُتراكمة لتشرق الأرض بالنور، فلا أكاد أرى أبعد من موضع قدمي، فهممت بالعودة فما كان لي هدف من الإتيان في الضباب والبرد إلا زيارة الشارع المؤدي إلى محطة القطار، فمنذ أن أصدر الخوف قرارًا بنفيي عن الوطن قبل ما يربو على ثلاث سنوات ولم تطأه عيناي التي تتفحصه رغم الضباب الذي تتشكل فيه صورتها، وهأنذا عدت.. ليس للوطن بل للخوف..

فمنذ أن قبّلت أرض المطار، وبداخلي إحساس أعجز تمامًا عن احتماله فكل شيء في الوطن يبدو كفزاعة العصافير في الحقل، والذكريات تتابع في رأسي كقطرات الماء المتساقطة من صنبور بشكل متقطع محدثة صوتًا مزعجًا جدًا يصل لحد العذاب كلما طفت ذكراها من أعماقي نحو السطح، فيصير وجهي شاحبًا وتتجمد أطرافي كأني جثة، وترتعش شفتاي، وتنزلق حبات العرق من رأسي على جبهتي، وأغمض عيني التي تتجول في الماضي بقوة مُحاولًا إطفاء تلك الذكريات، وأركض قاطعا الشارع هلعًا كما فعلت في ذلك اليوم..

فعلى غير عادتنا تأخر تقاطع خطواتي وخطواتها في نهاية الشارع من ناحية محطة القطار، حيث كان يمتزج ظلي وظلها فيصيران ظلًا واحدًا لطرفة عين، ثم يلتفت كل منّا وعلى شفتيه ابتسامة رقيقة طازجة كنَدى الصباح، وفي عينيه فرح طفولي عذب، تحوّل في غيابها إلى ومضات من نفد الصبر تبرق في عيني، وقد أظلم وجهي وانكمشت أساريره كاسفنجة بفعل التوتر والارتباك، فأنا أقف وحيدًا وسط رؤوس حليقة، ذات وجوه قاسية الملامح، تُصدر أعينها شررًا من لهب، وعلى شفاهها ابتسامة كريهة وكأنها قادمة من الجحيم، والأجساد الضخمة التي تحمل تلك الرؤوس تكاد تغرقني وتبث في نفسي اضطرابًا، وصوت التصفيق ثلاثًا متبوعًا بصرخة "حرية" يتنامى إلى مسامعي قادمًا من تلك الصفوف المنتظمة المتتابعة كالموج في بحر الطريق، وكلما اقتربت تحول اضطرابي إلى خوف فرعب.. وأنا أراها تلوح لي من على جانب الطريق، وظلي تدوسه الأجساد الضخمة التي بدأت الانقضاض على الصفوف ضربًا بعِصِيّ مطاطية سوداء.. فماجت الصفوف كالأمواج المُتلاطة، وتقهقروا في محاولة للفرار في الشوارع الجانبية، ولكن هيهات فقد فتحت يأجوج ومأجوج عليهم من حدب، فرأيتها تسقط على مقربة مني ولم يشفع لها السقوط في تفادي الركل من ستة أقدام تحلقت حولها، ظلت تركل وتركل حتى تعبت الأحذية، ثم جرّوها إلى مدخل أحد العمارات، فركضت كما أركض الآن، وأنا لا أبصر إلا وجهها الذي صار أزرق قاتمًا بلا أي ملامح وكأنه علبة من الصفيح تم سحقها بمطرقة عملاقة، وأنا لا أسمع إلا صرخاتها تدوي في أذني كأنما قد نُفخ في الصور حتى أكاد أصعق من شدة الهول فلا شيء من أجلها فعلت.