الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تأملات في الشيب والصلع


عندما ذهبت إلى أمريكا للحصول على الدكتوراه سألني الأستاذ مسئول الدراسات العليا هناك: "هل في ذهنك موضوع محدد تريد البحث فيه؟"، فقلت له نعم.. الشيب والصلع، فضحك بأعلى صوته حتى مالت رأسه إلى الخلف، وقبل أن ينهي ضحكته انتبهت إلى أن رأسه ملساء لامعة وبها آثار قليلة من شعر أبيض على الجانبين، شعرت بحرج بالغ فلربما جرحت مشاعره دون قصد، بعد أن أنهى ضحكته واعتدل في جلسته قال لي: "لقد جئت إلينا من مسافات بعيدة ولا نريد ضياع وقتك ومالك، ابحث في موضوع آخر".

كان أستاذي صادقا وهو الأدرى بخفايا البحث العلمي في أمريكا والعالم، فاليوم مرت عقود على نقاشي معه ولا تزال المشكلتان دون حل، وكل ما عرف عنهما الأسباب الحقيقية فقط، وتصحيح مفاهيم خاطئة كانت وما زالت شائعة عنهما، كارتباط الشيب والصلع بالذكاء أو بزيادة النشاط الجنسي وزيادة هرمون الذكورة "تستوستيرون"، وثبت أن هذا غير صحيح، فلا علاقة لهما لا بالذكاء ولا بزيادة هرمون الذكورة، فمحدودو الذكاء والمتخلفون عقليا متساوون مع غيرهم في بياض الشعر وسقوطه.

وإن كان الشيب لا يمثل مرضا أو مشكلة ملحة، لكن البعض يخاف منه ظنا أنه أول انحدارات الشيخوخة، وهناك أيضا من يرى فيه علامة للهيبة والوقار، ويروى أن جارية من جواري الخليفة المستنجد بالله عيرته بالشيب، ويبدو أنها كانت تحظى بمكانة في قلبه وإلا ما تجرأت وتكلمت، فرد عليها بأبيات حفظها التراث الغنائي إلى يومنا هذا:
"عيرتني بالشيب وهو وقار ** ليتها عيرت بما هو عار ** ..... فالليالي تزينها الأقمار".

يبدأ الشيب من جانبي الرأس ويمتد إلى وسطها ثم إلى القفا وآخر ما يصل إليه الحواجب، وسبب المشكلة هو الفشل في صنع المادة الملونة للشعر (الميلانين)، ومعلوم أن في بويصلة كل شعرة مولدات من الخلايا الجذعية تغذي الشعرات النامية بالخلايا الملونة باستمرار، وثبت أن تلك المولدات تتوقف وتموت لسبب مناعي (حساسية داخلية ومواد مؤكسدة)، وقال باحثون إن عوامل أخرى تتسبب في الشيب المبكر غير المناعة منها نقص الفيتامينات بشكل عام، وبالأخص فيتامين بي-12 و دي-3، لأنهم وجدوا أن لون الشعر يعود عند بعض الناس بعد تعاطيها، وذكر آخرون أن التدخين يعجل من الشيب، كذلك بعض الغسولات المحتوية على فوق أكسيد الهيدروجين (ماء الأكسجين)، وبناءً عليه نصحوا بتناول أغذية غنية بمضادات الأكسدة مثل الخضراوات وزيت الزيتون والشاي الأخضر، وعموما، يمكن القول إن لمعان الشعر وقوته دليل على صحة جيدة، وضعفه وسقوطه مؤشر للهزال والضعف العام، ومن فضل الله أن علاج الشيب أسهل بكثير من علاج الصلع، فصبغات الشعر متوفرة بمختلف اللألوان وبأسعار معقولة.

والشيب المفاجئ مذكور تاريخيا ودينيا، فيروى أن شعر الملكة الفرنسية ماري أنطوانيت ابيض من الخوف قبل إعدامها، وجاء في القرآن الكريم أن هول يوم القيامة "يجعل الولدان شيبا" (المزمل 17)، ولم يصل العلماء إلى فهم العلاقة بين الرعب والشيب، لكن رجحوا أن هرمونات التوتر ترفع نسبة الأكسدة في بويصلات الشعر فتوقف تلوينه.

أما الصلع فأمره مختلف، والمقصود هنا هو "الصلع الطبيعي غير واضح السبب"، وليس ذلك المصاحب لأمراض كثيرة كالفطريات والحروق والعلاج الكيماوي، ومن المفيد ذكر بعض المعلومات المؤكدة عنه، معروف أن بويصلات الشعر تتبادل النشاط والراحة فيما بينها ويفترض أن يكون عدد الشعر الساقط مساو للعدد الذي ينمو، لكن لو اختل التوازن وأصبح الشعر الذي يسقط أكثر من الذي ينمو، تظهر مساحات خالية تبدأ غالبا من المقدمة وتزحف إلى الخلف، أو كدائرة في الوسط، وثبت أن في الصلع عنصر وراثي ينتقل من الأب والأم وليس من الأب وحده، فالنساء تصاب بالصلع أيضا لكن بدرجة أقل وضوحا.

كما أن هناك علاقة قوية بين هرمون الذكورة والصلع، وأول ما لفت انتباه العلماء إلى تلك العلاقة كانت إحدى الممارسات التاريخية القديمة وهي خصي الأطفال لغرض إلحاقهم بالخدمة في قصور السلاطين والأمراء لخدمة النساء والعيش معهن، وكان المخصي لا يصاب بالصلع!

ومثلما كان السبب الرئيسي للشيب حساسية موضعية كما ذكرنا، كذلك الصلع، فهو حساسية بويصلات الشعر وموتها من مادة مشتقة من هرمون الذكورة حتى عند مستوياته الطبيعية. علماء في هولندا وأمريكا اكتشفوا المادة التي تدمر بويصلة الشعر وهي "بروستاجلاندين دي تو" ويسعون حاليا للتغلب عليها وتوعدوا بوقف عملها قبل عام 2020، ولوحظ أن الشعر قد يتساقط مؤقتا في ظروف كالحمل والضغوط النفسية وتأثير عدد من الأدوية والأمراض، لكن يعود بعد زوال السبب.

وإلى أن يأذن الله بعلاج حاسم للحالتين، سيبقى علاج الصلع محصورا في زرع الشعر والدهانات المغذية والفيتامينات والباروكات، وعلاج الشيب بالصبغات.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط