الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

جذور جودة التعليم في الفكر الإسلامي


الجودة والاتقان والإحسان والتحسين.. قيم بانية جاء الإسلام ليؤكد عليها؛ لتسود في شتى جنبات المجتمع، باعتبارها ركائز مهمة لبناء مجتمع يتحقق فيه معالي الأمور. وحينما تقترن الجودة بالتعليم فإن أهميتها تتعاظم في ظل عالم سريع التغير والتطور، بتقنياته الحديثة، وأسواقه المفتوحة وتحدياته المختلفة.. وما يتطلبه ذلك من تعليم جيد، يهدي للمجتمع خريجين قادرين على العطاء والابداع والابتكار والتعاطي الإيجابي مع هذه المتغيرات المتسارعة.. والقيمة عندما تستمد قداستها من العمق الديني، فإن حرية ممارستها تنبعث من أقوى المشاعر تأثيرا في حياة الناس.. وهنا استدعي للقارئ الكريم بعض النصوص الدينية، وبعضا من مشاهد تاريخ الفكر الإسلامي، للرد على مَن يجابه فكرة جودة التعليم برمتها بحجة أنها صنيعة أمريكية غربية لا تتفق مع مبادئنا وقيمنا!.

ونرى أنها حجة واهية؛ ذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) علمنا (أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها)، هذه واحدة، والثانية أن الناظر المدقق في الفكر الإسلامي يجد أن قيمة الجودة من قيم الإسلام المركزية، والتي عبرت عنها بجلاء آيات قرآنية متعددة، منها قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:2). في إشارة واضحة إلى أن الجزاء يتعلق بكيفية الأداء كائنًا ما كان هذا الأداء.. إذًا فمن البديهي أن يدعو المبدع جل وعلا إلى الإبداع وأن يحثَّ المحسن سبحانه إلى الإحسان.. كما يقول تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء: 125). فضلا عن التطبيقات النبوية وتطبيقات الصحابة والتابعين.. إلخ.

ومن يدقق النظر في ممارسات جودة التعليم الحديثة يجدها تتسق في روحها وذاتيتها مع مبادئ ديننا الحنيف، وإن كانت أخذت شكلا معياريًّا وقياسيًّا.

والجودة قيمة مهمة في حياة الشعوب المتقدمة والحضارات التي تركت بصماتها غائرة في التاريخ الإنساني. ولما كان الدين الإسلامي الحنيف قد جاء للدنيا والدين معًا، فإنه قد اهتم كثيرًا بقيمة الجودة خصوصا جودة التعليم؛ باعتبارها من القيم المهمة واللازمة التي تحقق للمجتمع الريادة والسيادة، ومن ثم تحقق جودةَ الحياة.. يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه).

والجودة في المنظور الإسلامي شاملة لشتى الأنشطة العلمية والتعليمية والتربوية والعملية والحياتية.. وهي قيمة ذاتية تنبع من المنهج الإسلامي بربانية مصدره، وعالميته، وخاتميته، وصلاحيته لكل زمان ومكان.

ولما كان التعليم والبحث العلمي ركنان أساسيان في حياة الشعوب والأمم، وعماد كل تخطيط، وعصب كل تنمية ومن ثم فإنهما يحتاجان أكثر من غيرهما إلى معايير الجودة.

والعلم والتعليم نشاطان يستهدفان زيادة قدرة الإنسان للسيطرة على الطبيعة وتسخير مكوناتها وخيراتها لخدمة الإنسان، ومن ثم تأهيله لعمارة الأرض والكون والحياة، وهما أيضا الطريق إلى تقدم المجتمعات وتطورها ومواكبة العصر في جميع ميادين الحياة، وأصبح الاهتمام بهما من المقاييس الرئيسة التي تقاس بها حضارة الشعوب وتقدمها، حيث أدركت الدول المتقدمة أن نجاحها وضمان تفوقها يعتمد أساسًا على القدرات الإبداعية لعلمائها وباحثيها في تحقيق جودة الحياة.

والتعليم مكون أساسي من مكونات الحضارة الإسلامية، ويُعد اهتمام المسلمين بالتقدم العلمي والتعليمي وتحقيق جودته من صميم العقيدة الإسلامية، فآيات القرآن الكريم التي تحث على البحث والتقصي والتدبر والتفكر في ملكوت الله وفي آيات الله الكونية (كتاب الله المنظور "الكون")، وفي آيات الله التشريعية (كتاب الله المسطور "القرآن الكريم") من الكثرة والشمولية بمكان، ومنها قول الله تعالى مستحثا المسلمين على إعمال العقل والتفكر العميق: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا...) (الروم: 42)، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا...) (الأنعام: 11)، (...لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف: 176)، (...لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) (يوسف: 46)، (...لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم: 25)، (...لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (الأنبياء: 31)، (...لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) (الأنبياء: 61)، وغيرها كثير، مما يُبرهن على اهتمام الإسلام بتجويد العلم والبحث والتقصي والتنقيب والتفكير العميق للوصول إلى الحقيقة.

ولقد قاسمت السنةُ النبويةُ الشريفةُ، القرآنَ الكريمَ في الاهتمام بالعلم والتعليم والبحث والتفكير، وأيضا الاهتمام بالشورى التي تعد واحدة من نتاج التفكير العميق، والتي تؤكد احترام النبي (صلى الله عليه وسلم) لعقول أصحابه وآرائهم.. بل جعل (صلى الله عليه وسلم) العالِم أفضل من العابد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، وكان اهتمامه (صلى الله عليه وسلم) بالترجمة والعناية باللغات الأخرى وتشجيعه لأصحابه على البراعة فيها للبحث والتفتيش عن النافع والانفتاح على الآخرين انطلاقا من (أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها)، دليلَ تحضرٍ للمسلمين في وقت مبكر من تاريخ الإنسانية، ومن ثم فإن استفادة المسلمين من إبداعات الآخرين النافعة والتي لا تصطدم مع ثوابتنا ليست بدعًا في الدين.

ويمتاز الإسلام بأنه يضيف للتعليم بُعدًا إنسانيًّا؛ حيث يُعطي المشتغلين به والمجيدين فيه مكانة عالية؛ كونهم يقومون بخدمة بني الإنسان، كما أن العلم في الإسلام شمولي فعندما نقرأ قوله تعالى: (...فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(النحل: 43) ندرك كم هي مكانة أهل الاختصاص في كل المجالات، ومن الواجب سؤالهم واستشارتهم.

والناظر المدقق في تاريخ الحضارة الإسلامية، في عصورها الزاهرة، يلحظ أنها أثْرت الحياةَ الفكريةَ والتربويةَ والثقافيةَ والاجتماعيةَ والبحثَ العلمي بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسانية وقتذاك؛ ويرجع ذلك بالطبع إلى تجويد ممارسات التعليم والبحث والدرس والتأليف.

ولقد اهتمت المدارس الإسلامية والمؤسسات التربوية والتعليمية منذ مئات السنين وعلى رأسها الأزهر الشريف الذي يمتد تاريخه إلى أكثر من ألف عام بجودة التعليم الذي يقدمه للدارسين فيه، حيث اهتم بجودة مدخلات العملية التعليمية والتربوية وعملياتها ومخرجاتها.. حيث قام الأزهر الشريف وأروقته والمدارس الإسلامية قديما بجهود علمية وإسهامات تربوية فريدة تصب جميعها في فكرة جودة التعليم، واستفاد منها الغرب والشرق، ومن ثم أسست لبزوغ كثير من العلوم والنظريات العلمية والتربوية التي توجه عمليات التربية والتعليم نحو التحسين والتجويد، فعلى سبيل المثال: نجد أن الأروقة الملحقة بالأزهر الشريف والتي كانت تضم طلابًا من شتى الدول، أسهمت في تفاعل الحضارات، حيث كانت مراكز لترجمة الفكر الإسلامي من العربية إلى شتى اللغات والعكس.

وكانت الإقامة فيها تتم وفق ضوابط وترتيبات دقيقة، حيث كانت توزع حسب الأعمار وحسب القدرة البدنية؛ إذ جُعلت المساكن المرتفعة للقادرين على الصعود إليها، والعكس، وكان الساكن يختار مَن يجاوره؛ ليكون مُعينًا له على التعلم، وكان المنشئون يراعون حالة السكن الصحية، واختيار المكان الملائم، ومراعاة المستوى الأخلاقي للطلبة، بما يضمن حسن العلاقة بين جميع الدارسين، وأيضا لزوم حضور الطالب درس الأستاذ، وإفشاء السلام وإظهار المودة والاحترام، وعدم رفع الصوت حتى لا "يشوش" على غيره، ومراعاة حق الجيرة والصحبة في الدين والعلم؛ ولا شك أن كل ذلك من ممارسات ومعايير الجودة في العصر الحديث، ومن الآداب أيضا ضرورة المحافظة على المباني الدراسية وتجهيزاتها من الفرش والقناديل والأثاث والمباني والكتب وغيرها، باعتبارها ملكًا عامًا.

وهذه الآداب تؤكد حرص العلماء والمربين المسلمين على راحة الساكنين، وسبقهم إلى ضرورة مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب في النواحي الجسمية والعقلية والاجتماعية والنفسية والسلوكية بشكل عام.. ومن ثم كانت هذه الدور محاضن خصبة، وبيئة جيدة مواتية ومحفزة لجودة التعليم، وبالتالي تميز الباحثون المسلمون الأُول بإنتاج المعرفة في كثير من المجالات، وانتقلت أبحاثهم ومعارفهم إلى بقاع كثيرة ليستفيد منها الناس في كل مكان.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط