الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هذه التي يسمونها "شجاعة"


ما الذي يدفع شخصًا لأخذ قرار –كان متأكدًا من صوابه- ويكتشف في النهاية أنه أخطأ ؟؟ هل هي الشجاعة أم حسابات يزنها العقل طبقًا لقناعات المُقرر؟؟ هل الشجاعة في أساسها تعني أنك على صواب ؟؟ أم أن هرمونات التستيرون تدفعك نحو القرار غير آبه بنتائجه ؟؟ ، وما هي أصعب ضروب الشجاعة وأقصى درجاتها ؟؟ هل هؤلاء الذين لا يخشون الموت شجعان ؟؟ وماذا عن تفاصيله وطرقه –الموت- ألا تزعجهم ؟؟ ، أسئلة كثيرة ربما لا تجد لها إجابات لكن حتمًا ستصل إلى جزء من الحقيقة كلما مررت فجربت.

في أرض النفاق استطاع يوسف السباعي صياغة الكثير والكثير مما يجول بخاطر البشر، ودعنا هنا نورد قصة بطل الرواية مع مسحوق الشجاعة فقط، الرجل كان يسير في مكان قفر، لا حياة ولا بشر وربما انقضت سنوات على مرور شخص من هذا الطريق، أثناء ذلك راعه وجود حانوت صغير، كيف ؟؟ -سأل نفسه- من ذا الذي يستطيع البقاء هنا ولو ليوم واحد بل لساعات ؟؟ اقترب من الحانوت بما يكفي ليقرأ ما كُتب عليه.

"تاجر أخلاق" لافتة مُعلقة على الحانوت، نظر مرة فأخرى وكررها وأطال النظر علّ شمس هذا "القفر" أثرت على رؤيته، لكن في النهاية تأكد أن ما قرأه صحيح "تاجر أخلاق"، سأل نفسه مجنون أو مأفون ذاك الذي يسكن هنا ويصف نفسه بتاجر أخلاق، أباتت الأخلاق تجارة ولها تجار يبيعونها ؟؟ أسئلة كثيرة دفعته للدخول ودار حديث غلبت عليه السخرية –من جانبه- بينه وبين "الحاج" الجالس منذ سنوات بين أجولة تمتلئ بالمساحيق ما بين المروءة والشهامة والشجاعة والكرم، أجولة كما هي قائمة وكأن يدًا لم تقربها.

أنتج الحديث الغريب قناعة لدى صاحبنا – بطل الرواية- بصدق البائع فطلب مسحوق الشجاعة، أعطاه الرجل قرطاسًا يكفيه عشرة أيام، ذهب البطل وفي طريقه إلى منزله تزاحمت الأسئلة في رأسه يسوقها عقله كما تُساق الإبل، هل أنا جبان لأخذ "مسحوق الشجاعة" لا لست جبانًا فأقصى ما يمكن أن يواجهه الإنسان ويخشاه ويكون شجاعًا معه هو الموت وأنا لا أخشى الموت –يقول لنفسه- إذًا أنا شجاع، فلماذا أشرب هذا المسحوق ؟؟ ظل على هذا الحال حتى وصل إلى البيت.

وكما ساقت رأسه الأسئلة، دفعها صاحبنا للبحث عن مبررات لشرب المسحوق فكونه رجلا شجاعا لا يخاف الموت في مجمله ولا نتائجه بل يخشى من تفاصيله وحماقات أسلوبه –هكذا صاغ- فهو لا يتصور أن يموت أسفل عجلات قطار، تتقطع أوصاله وأعضاؤه أمامه حتى تخرج الروح من الجسد، هو يتقبل فكرة الموت في حد ذاتها لكن تفاصيلها تُرعبه، فالأمر ليس كأنك ذاهب إلى النوم تسترخي على سريرك، يطاردك الأرق فتمسك بكتاب أو صحيفة تقرأ وتظل حتى يغلبك النعاس فتذهب، لا، إطلاقًا، الأمر أكبر وأكثر قسوة من ذلك، لأنك لا تضمن "ميتتك" وما يسمعه عن مصارع يجعل رعشة غريبة تسري في بدنه، إذًا هو جبان وسيشرب مسحوق الشجاعة.

الوجه الآخر من القصة أن صاحبنا هذا لم يجرب الإطار الذي اختصر فيه كونه شجاعًا "الموت" وبالتالي كان يعتقد أن الأمر سهل وبسيط في مجمله ونتائجه وهناك مثل إنجليزي يقول "الشجاعة سهلة وأنت بعيد" وهي كذلك بالفعل كونك لم تمر أو تُجرب ما وقعت أو ستقع فيه، فأنت تعتقد أنك سباح عظيم تغمض عينيك وتعوم في المحيط إذا أردت، لكن مجرد وجودك على سفينة ومشاهدتك لصعودها وهبوطها مع الأمواج سترتعد فرائصك وهذا ليس عيبًا، فالخوف غريزة بشرية وأمر طبيعي.

الشجاعة الحقيقية لا تنطلي على مواجهتك الموت فقط، لأن كل موقف أو حدث له دوافعه حتى وإن كان من بين تلك المواقف "نهاية" فأحيانًا تكون الشجاعة أن تتحيز مقتنعًا، أن تأخذ قرارًا، أن تبتعد عن "صراع"، أن تغادر "أرض نفاق"، أن تزهد فيمن وفيما تُحب.

الشجاعة وجوهها متناثرة في حياتنا، سهام تتطاير بجوارك وكل ما عليك أن تلتقط واحدًا وتطلقه من قوسك، وهكذا الواحد تلو الآخر حتى تنقضي سنوات عمرك وتذهب لمواجهة "الموت" أيًا كانت طريقته أو أسلوبه.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط