الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دنيا النفاق بلا أخلاق


تعتبر رواية فيلم «أرض النفاق» قمة النقد الاجتماعي الساخر، ودعوة لإصلاح النفس وتهذيبها من منظور الأديب الكبير يوسف السباعي عندما كتبها عام 1949.

وتحكي القصة ببساطة -وفي إطار كوميدي افتراضي- أن هناك شيخا طيبا من أولياء الله يقوم بتصنيع أقراص تعطى للبشر عن طريق الفم، منها أقراص للصدق والشجاعة والمروءة وغير ذلك من الصفات الحميدة في الإنسان. وعلى النقيض يقوم أيضًا بصناعة أقراص تبتلع أيضًا للصفات الرديئة كالكذب والنفاق والرياء وغيرها. وذات يوم يرميه القدر بموظف كحيان، تكلست طبقات جلده من كثرة العمل والأضابير التي كان يحملها كل صباح ومساء.
كان هذا الموظف يملك جينات وراثية كامنة تجيد العزف للأسياد لينعم برضاهم وجودهم وسخائهم. لكن الدنيا كانت تسير معه عكس عقارب الساعة، كلما قام بضبطها دارت في الاتجاه المعاكس، فيكتوى دومًا بجزاءات وظيفية ومعها عبارات نارية.

أخذ الموظف يسأل الشيخ الطيب عن أقراص للفساد الأخلاقي أو لقلة الحياء أو للنفاق، فيخبره أنها «خلصت لأن الطلب عليها زايد أوي لدرجة إن الناس وقفت صفوف، كالواقفين في طوابير الجمعيات الاستهلاكية، عشان تستلمها»، فسأله عن مصير أقراص الأخلاق والشرف والشجاعة والمروءة، فأجابه أنها «بايرة معلهاش طلب».

في النهاية، استغفل الموظف مالك الدكان الطيب وسرق منه أقراص النفاق، وهنا فتح له الشيطان باب الثراء في الشركة حتى أصبح مديرًا عامًا، وكلما زادت طموحاته، ذهب وأحضر أقراصًا للنفاق، فيزيد عنده معدل النفاق ويتبوأ أرفع المناصب. وذات يوم، أخطأ وسرق حبوب الصدق، وابتلعها، فعاد سيرته الأولى وخسر وظيفته وشلته من المنافقين. وتطور الأمر أن ألقيت أقراص الصدق في نهر النيل فشربها المصريون، فأصبح الصدق ديدنهم، ولم يجد المنافقون من يسايرهم، لدرجة أن واحدًا من كبار المنافقين عندما توفي لم يجد من الصادقين من يشيع جنازته.
وأتساءل: أية عبقرية أتت ليوسف السباعي ليقوم بتشريح هذا المرض الاجتماعي بهذا الذكاء والبهاء! وهل كان النفاق متفشيًا لدرجة أنه حفز أديبنا الكبير ليكتب تلك الرواية العبقرية التي تفضح المنافقين؟

في هذا الإطار، وفي رواية فيلم «القاهرة 30» للأديب الكبير نجيب محفوظ، التي كتبها عام 1945، يطل علينا بطل الرواية محجوب عبد الدايم، الآتي من قريته إلى المدينة وقد قرر أن يبيع نفسه ويتخلى عن مبادئه وأخلاقه، ويبدلهم بآيات النفاق الكبرى، فيتحول إلى إنسان وصولي متسلق، حتى وصل به الأمر إلى ما وصل من الانغماس في الوضاعة والانحطاط الأخلاقي، فعمل قوادًا لزوجته مع رئيسه في العمل، الباشا الكبير، الذي دومًا ما كان يرضى عنه ويرفع درجاته كلما ارتفعت درجة رضاه عن خليلته.

إن صورة المنافق في المجتمع الشرقي بارزة ومتنوعة الأشكال، وفي هاتين الروايتين نجد أن النفاق والوصولية التي يتخذها البعض منهجًا لحياته ليصل إلى ما عجز عن تحقيقه بالكد والعمل، دائمًا ما تنتهي بصاحبها نهاية محزنة يشوبها الذل والعار في الدنيا والآخرة، بيد أن نجيب محفوظ أضاء روايته أيضًا بمن يتقي الله ويرفض أن يأكل لقمة حرامًا ملوثة بإدام المنافقين والوصوليين، في صورة بديعة تشرح قلوب القراء حين نشعر أن المجتمع لا يزال بخير.
أحقًا لا يزال المجتمع بخير؟

ما بين العامين 45-49 والعام 2018 كان يجب أن يرتقي الإنسان بنفسه ويسمو فوق كل ما يحط من قدره، وأن ترتفع درجة إيمانه بالقضاء والقدر، وأن الله قدر له رزقه، حين قال: ﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون﴾؛ فالرزق مقدر لنا، ففينا من يسعى إليه بالحلال ويصبر عليه، وفينا من يستعجله فيذهب إليه ويقتنصه بالحرام قبل أن يُؤذن به له. غير أن حال الكثير منا اليوم يثير الشفقة؛ فنرى أناسًا أصبحوا عبيدًا لشهواتهم، يتخذون النفاق وسيلة، لتحقيق غاياتهم، ويختصرون حياتهم في عبارة واحدة: «الغاية تبرر الوسيلة». مخطئ أنت يا سيدي، فالشمس تفضح ما تظنه مستورًا، وتسقط قناعك مكسورًا، فعد سيدي إلى أصلك المليح، قبل أن تسقط في دنيا الفعل القبيح.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط