الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تشبيه الدولة بجسم الإنسان


ما يميز جسم الإنسان عن الدولة الجغرافية هو إبداع الخالق في وضع أقصى آيات الإعجاز الوظيفي في حدود الجسم الضيقة، لذا كان حلم الفلاسفة عبر التاريخ أن تقترب الدولة في أدائها من أداء الجسم البشري. 
منذ عصر الإغريق، مرورا بالعصر الإسلامي ثم فلاسفة أوروبا، شاعت "النظرية العضوية للدولة" في الفكر السياسي لكنها بقيت خيالا حتى عهد قريب، عندما اكتسبت تلك المقارنة أبعادا تطبيقية وأصبحت مصدر إلهام لمعظم أبحاث الكيمياء والطب والهندسة.

قارن أفلاطون الدولة برجل ذي مكانة، ودلل بأمثلة كثيرة على التشابهً بينهما، وقال إن أفضل دولة منظمة تشبه تقريبًا مثيلها الخاص داخل الفرد.. وفي المفهوم الإسلامي حديث نبوي رواه مسلم شبه المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

في القرن التاسع عشر رأي الفيلسوف البريطاني سبنسر أن الدولة تشبه الكائن الحي بل هي كائن حي بالفعل! وأنه توجد علاقة اعتماد متبادل بين مكوناتها بحيث لو بتر ذراع فإنه يموت، وقال أن رئيس الدولة هو "الوجه" الذي يتكلم أمام الشعب والعالم ليشرح سياسة بلده، وهو أيضا "الأذن" التي تسمع، و"الأنف" الذي يشم المخاطر الداخلية والخارجية فيتصدى لها. 

مع التقدم العلمي الكبير في العصر الحديث ترسخ تشبيه الأقاليم والشعب بالأعضاء والخلايا، أو كما يتكون الجسم من خلايا تتكون الدولة من أفراد، وتوفرت للمقارنة عناصر علمية جديدة دخلت حيز التطبيق، وتحول هذا التشبيه المجرد إلى قاعدة بيانات لتطوير عدد كبير من الصناعات. 

طبيا، الهيكل العظمي يرسم الحدود، أي شكل "الدولة" وحجمها، وهو جسم الإنسان من حيث الطول والعرض.. والجلد سياج حدودي يحمي الجسم، وهو أيضا جهاز استشعار دقيق وملطف للحرارة.

المخ هو "الحكومة" التي تسن القوانين وتفصل بين السلطات، تخطط وتبحث عن التمويل وتبرم المعاهدات وتطبق الدستور، ولديها الذاكرة.. والمقصود بالدستور هنا هو شفرة الحمض النووي التي تقضي بأن الدولة "دولة بشر".. وإلى جانب رئاسته للحكومة، يدير المخ حقائب التعليم والبحث العلمي. 

القلب وزير العدل والرياضة، لعدله في توزيع الموارد الغذائية والأوكسيجين لكل مناطق الجسم دون تمييز، ودعم صاحبه عند بذل أي جهد.. والعين هي أعظم كاميرا وآلة استطلاع يمكن تخيلها. 

جهاز المناعة هو جهاز الأمن والاستخبارات ومسئول الصحة، يحمي أجهزة الجسم من العناصر والمواد المخربة والمندسة أيا كان مصدرها فيقضي عليها خصوصا البكتريا والفيروسات، وللجسم منافذ (فتحات) حدودية كثيرة عليها حراس كثيرون، بعضها للاستيراد كالفم والأنف والعين والأذن، وبعضها للتصدير أو التخلص من النفايات كالجلد والجهاز البولي والشرج. أما اللسان فهو الناطق الرسمي باسم الجسم.

الجهاز الهضمي يقوم بمهام وزاراتي التموين والصناعة، والكبد على صغر حجمه أفضل مصنع للمواد الغذائية في العالم، مثلما المخ هو أفضل جهاز علمي على وجه الأرض، وتوصيل الموارد مسئولية الأوعية الدموية، تقابلها الطرق والسكك الحديدية في الدولة.

وفي الكلى (وزارة البيئة) ملايين من كريات الترشيح التي تطرد السموم.. كل هذا قاد إلى تطوير مرشحات صناعية غاية في الدقة كمرشحات الغسيل الكلوي وتنقية الماء والهواء وغيرها.

ولم يقف تشبيه جسم الانسان عند شكل الدولة فقط، بل كان مصدر الهام للكثير من الصناعات كما ذكرنا.. فبالإضافة إلى تقليد الجسم بأكمله بصنع روبوتات مبهرة، حدث تقليد لأعضاء الجسم في صناعات حديثة نذكر منها ما يلي: 

ذاكرة المخ تساوي مليون جيجا بايت تستوعب ما يبثه تلفزيون مفتوح لمدة 300 سنة، صنعت على غرارها أقراص الخزن في الكمبيوتر.. وللتذكير فإن أول قرص صلب (جهاز تخزين البيانات) كان طوله نصف متر ووزنه عدة كيلوجرامات، لكن بسرعة مدهشة أخذ يقل في الحجم ويزداد في السعة التخزينية حتى وصل الى حجم ظفر الإصبع "الفلاشة". 

وبالعودة إلى القلب، الذي هو أيضا مضخة بحجم قبضة اليد، ينبض ليل نهار بمعدل 40 مليون نبضة في السنة لدفع الدم، يولد طاقة قدرها 3 مليار جول لشخص عاش 70 سنة مثلا، هذه الطاقة الهائلة المبذولة دون توقف ودون الحاجة إلى صيانة أو زيت كباقي المضخات، شجعت وساهمت في تطوير كافة أنواع المحركات للحصول على أعلى كفاءة بأقل وقود، وما زالت الأبحاث مستمرة في هذا المجال نحو الأفضل.

مجموع أطوال خيوط الحمض النووي في خلايا الشخص الواحد 200 مليار كيلومتر، ما يساوي رحلة ذهاب وإياب إلى الشمس 70 مرة.. فهم تركيب هذا الحمض ساعد في الغوص في التفاعلات الدقيقة (أبحاث النانو) والهندسة الوراثية لتحسين الإنتاج واستبدال الجينات المسببة للأمراض بأخرى سليمة.

الحقيقة المؤكدة هي أنه كلما اقتربت الدولة من نظام الجسم البشري وإدارته، كلما اقتربت من الكمال.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط