الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حينما يستيقظ النهر


تتمزق الملامح والأمنيات على أعتاب بيت صغير داخل قرية صغيرة بموت شاب ثلاثينى , فتبدأ الرواية فى الصفحة الأولى بمشهد الموت , ولم يكن يعلم أصدقائه وتلاميذه أن مشهد الموت هو البداية وليس كالنهاية الطبيعية الموجودة فى باقى الروايات , وأن البطل سيظل موجودا بكتبه وأشعاره وقصائده الململة صدفة, حينما باعوا منزله الذى اهتدى إليه كثير من شعراء مصر الكبار وتعلموا فيه وتبادلوا القصائد وأبيات الشعر وأنغام الطرب.

"حينما يستيقظ النهر" , كان عنوان الحلقة التى ذاعتها أمس قناة النهار من برنامج "باب الخلق" والذى يقدمه الإعلامى محمود سعد , لتتحدث الحلقة عن حياة الراحل أحمد عبيدة أحد شباب الحركة التنويرية فى السبعينيات , هذه الحلقة أعلنت للجميع أن مصر مليئة بالعظماء الذين تتفق وتختلف معهم , مليئة بالعشاق الذين يعشقون تراب الوطن , ولديهم إستعداد فطرى فى بذل الغالى والنفيث من أجل النهوض بمقومات الوطن الأساسية بداية من الفكر والإبداع وصناعة الرقى المادى والمعنوى , كما أن هذه الحلقة أزاحت الستار عن عقول يملأها التراب , وعيون لا ترى النور , وقلوب نائمة فى سبات طويل , وأنفاس كريهة , وشماتة لا مبرر لها , وغضب ليس له داع , وإنتقاد لأشياء جميلة لها قدسيتها , وعواء يتردد من ألسنة خرساء تحت عيون لاترى النور , ولا ترى حتى تحت قدميها .

الحلقة سلطت الضوء ناحية شاب لم يعش أكثر من 34 عاما , لكن عاشت ذكراه واشعاره وملامح تكوينه فى أقرانه واضحة كوضوح الشمس , وكأنه لم يدخل القبر ولم يتحلل الجسد فالروح دائما أقوى من الجسد , وروح أحمد عبيدة سكنت وأستقرت فى أجساد الكثير والكثير ممن عايشه فى عصره أو حتى من سمع عنه ولم يراه , لدرجة أننا أبناء جيل , فارق الزمن بينه وبين جيل عبيدة كبير , ومع ذلك نشعر أننا نراه فى كل مكان داخل قرية العمار , إحدى القرى التنويرية والتى يٌضرب بها المثل فى نشر الثقافة والفنون , فالعمار هى قرية الوجهاء , ليس لأنهم يمتلكون مالا أو قصورا أكثر من غيرهم , ولكن لديهم من الفكر الواعى ما يؤهلهم أن يعلنوا بكل فخر أنهم أبناء قرية حطمت كل قيود الظلام بالوعى والإبداع المتوارث عندهم جيلا بعد جيل , فالعمار كانت ومازالت تضع حدا فاصلا للجهل والعلم لمحاربة الوحدة الموحشة والظلمة والعدم والخواء وزيف الحياة , للبحث عن الحرية .

أحمد عبيدة رحل وترك ورائه إرث عظيم , ترك ذلك الإرث فى أعماق البشر الذين تعلموا منه وتناقلوا روحه , ترك هذا الإرث حينما أعلن أن فى أعماق البشر بحورا لا تقل فورانًا وتقلبات بين حركات المد والجزر , حينما أعلن أن نفوس البشر كالبحور التى تمتلأ بالحيتان وأسماك القرش المتوحشة , وجواهر وددر وأحجار كريمة , فكان هدفه الدائم تنقية نفوس البشر وكأنه يحمل رسالة السلام الإجتماعى الذى يصطحب صاحبه الى أعلى المراتب الدنيوية , ذلك الشخص المتصالح مع الجميع لم يكن يدرى فى يوم أنه سيكون الضحية , ومع ذلك قبل أن يرحل جمع أكوام الحبوب من الثقافة والفنون ونثرها فى أرض العمار , فكانت أرض خصبة لإنبات عقول مستنيرة وقلوب مطمئنة وأفكار متقدمة إنتشرت فى باقى مدن مصر وربوعها , وواحد من الذين صناعوا تاريخ للعمار يقترن بها كإقتران شجرة المشمش.

ذلك الرجل لا يكفى الحديث عنه مقال أو حتى كتاب , فأحمد عبيدة واحد من الذين يجب أن يسلط الضوء ناحيتهم فى كل مراحل حياته , وحتى طريقة موته التى إختلف عليها وفيها الكثير , (وبرغم الإعتراض الكامل عليها ) , إلا أن طريقة موته كانت إعلان التخلى عن الحياة العبثية والمضمون الرتيب والأفكار المتجمدة والعقول المتحجرة , وكانت إعلان يدق ناقوس الخطر حول عبثية الوضع البشرى , وصرخة إحتجاج ضد واقع زائف وقاسى وعبثى , والتمرد على ثقافة القهر والمنع والتحريم والتكفير .

ياسادة .. إن أحمد عبيدة حالة يجب ان تتكرر فى كل الأزمنة وفى كل الأماكن , لتأخذ الأشياء دلالتها الحقيقية , وتتزايد أٌلفة المكان , وتظهر طاقات النور فى الليل , وإيجاد العالم المفقود دون الإحساس بالضياع أو أن الحياة تساوى الموت .

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط