الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

طه حسين.. الخلود يليق بك


عندما اقترحت الكتابة عن العديد من القمم الفكرية والأدبية طوال شهر رمضان وقبل بدايته بساعات كما يحدث مع هذا المقال باعتبارها في ظني ستكون رحلة ممتعة للصائمين والقراء الأعزاء، لم أكن أعرف أن الحب يختلف كثيرًا عن الكتابة، وأن التعلق بأعمال وكتب وروايات رواد التنوير والحركة الأدبية والثقافية في مصر شىء، والكتابة عن هؤلاء العظماء والإبحار في أفكارهم شىء آخر تمامًا.

ففى العشق أجيال وملايين مثلي من المصريين والعرب يعرفون طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم ومختلف رموز التنوير والنهضة الثقافية طوال أكثر من 150 سنة في مصر، وكل يحب لهؤلاء القمم ما يروق لهم من أدبهم وما يتعلقون به من أعمالهم.

أما في لحظة الكتابة، فإن ذلك الحب المنثور من جانبي أو من جانب ملايين غيري لن يظهر في نظرة تبجيل واحترام وتعلق ولهفة. وإنما سيكون واجبا علي تلخيصه في مقال واحد أو مقالين.

وصعب أن تلخص عشقك لطه حسين رائد التنوير في مصر وعميد الأدب العربي في مقال واحد. والأصعب أن تكتب عنه.

لكنه الاجتهاد في إعادة فهم وإضاءة جزء من سيرة "العملاق الضرير" الذي أضاء لنا مختلف جنبات الحياة الثقافية . وأصبح هو وأمثاله مثل منارات وشهب الحضارة الفرعونية القديمة.

فالبلد الذي فيه الأهرامات وأبو الهول ومعبد الكرنك. هو البلد الذي أنجب طه حسين ونجيب محفوظ وأحمد أمين وسلامة موسى ومحمد حسنين هيكل وماحسان عبد القدوس ومصطفى محمود وغيرهم من رموز الإبداع والتدفق.

والبدء في هذه المقالات..

بسيرة ومعارك وحياة "طه حسين" لا تحتاج إلى مناسبة كذكرى ميلاده أو رحيله عن عالمنا . لأنه واحد من الخالدين الكبار في تاريخ البشرية. لا يموت ولا تختفي أفكاره وستظل موجودة مثلما هم الكبار في عالمنا. وتدرس ويكتب عنها العشاق والمحبون والدارسون بعد قرون. كما هو الحال اليوم في الكتابة عن "ابن رشد" او "ابن خلدون" أو "ابن كثير"، وكل في مجاله التنويري. قد حاول أن يضىء شمعة للبشرية تفتح الطريق أمامها لاجتياز مجاهل الفقر والأمية والظلام.

وفي سيرة العميد د. طه حسين، هناك الكثير والكثير الذي يقال ويتم التوقف عنده. فهو عميد الأدب العربي الحديث بلا منازع. وهو الكاتب والمفكر ذو التأثير الأعظم على أجيال من كتاب مصر ومثقفيها.

أثر بكتاباته على حركة النهضة المصرية والحداثة في الأدب العربي الحديث. وبعد وفاته اليوم بنحو 46 عامًا لم تنجب مصر ولن ينجب العالم العربي "طه حسين جديد". لأنه باختصار واحد من علامات الفكر الكبرى الصعبة التكرار في تاريخ الأمم.

رشح بكتاباته لجائزة نوبل نحو 14 مرة لكنه لم ينالها وقد كانت هى من ستشرف به لو نالها.

قيل في د. طه حسين، وفي فكره الكثير من المغالطات والدسائس والاتهامات الشنيعة التي طالت دينه وأفكاره وكتاباته. ولعل معركة كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" قبل أكثر من 90 عامًا من الآن لا تزال واحدة من المعارك الفكرية الكبرى في تاريخ الوطن.

ففي عام 1926 ألف د. طه حسين كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي". وعمل فيه بمبدأ "ديكارت" الفيلسوف الفرنسي الشهير وخلص في استنتاجاته وتحليلاته أن الشعر الجاهلي منحول، وأنه كُتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين، فتصدى له العديد من علماء الفلسفة واللغة ومنهم: مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين ومحمد لطفي جمعة والشيخ محمد الخضري ومحمود محمد شاكر وغيرهم وكانت معركة مشهودة. كما قاضى عدد من علماء الأزهر طه حسين وأتهموه بالإلحاد، إلا أن المحكمة برأته لعدم ثبوت أن رأيه قصد به الإساءة المتعمدة للدين أو للقرآن.

وكان أعظم ما في معركة" الشعر الجاهلي" في رأيي. أنه قبل هذه السنوات الطوال، ومصر والشعوب العربية تئن آنذاك تحت نير الاحتلال والأمية والتخلف، تقدم العملاق طه حسين وهو في ريعان شبابه ليثير هذه القضية ويقيم الدنيا ويقعدها وتفتح عشرات الصحف أبوابها للكتابة والرد عليه. وتؤلف عشرات الكتب ويُكشف عن باب مجهول من عيون الأدب يعرفه الشباب والكبار.

كما أن من فضل "الشعر الجاهلي" لطه حسين، أنه كان في طليعة "الكتب العاصفة"، في تاريخ الفكر العربي الحديث. فعاصفة الشعر الجاهلي كانت في عام 1926 بعد عام واحد من صدور الكتاب الأزمة "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق. وهو الكتاب الذي تم تكفيره بسببه وأقام الدنيا ولم يقعدها طوال عقود بسبب تصديه بالفكرة والحجّة لمدنية الدولة في الإسلام.

فطه حسين، وإن كان الأشمل والأكبر والأكثر تأثيرًا. سطر كتابًا عاصفًا عن الشعر الجاهلي. اتهم فيه بالالحاد وهى التهمة الأسهل على لسان السطحيين وشيوخ السلطة واشباه الكتاب في كل مكان وزمان لكنه بكتابه فتح بابا من ابواب الفكر المغلقة بالضبة والمفتاح.

وبعد قيامة "الشعر الجاهلي" ورغم الإساءة إليه والتعريض به واصل العملاق طه حسين طريقه على هدى شديد. من عقل يرفض التخلف والجهل والمسلمات. فأبدع نحو أكثر من 55 كتابًا في مجالات الفكر والنقد والتراث حتى سطر بمفرده قلعة فكرية لا يزال ينهل منها الباحثون والدارسون وستظل كذلك عبر القرون.

فـ"طه حسين" هو من كتب "الوعد الحق" و"على هامش الشيرة" والشيخان والمعذبون في الأرض و"الأيام" وفلسفة ابن خلدون الاجتماعية. كما كتب عن "مستقبل الثقافة في مصر في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي يستشف واقع الثقافة والعلم في بلد الحضارة.

ومن خلال قراءتي وعشقي لرائد التنوير المتمرد على الجهل والتخلف. يمكن التوقف خلال هذا المقال العابر عن العميد أمام محطتين من محطات حياته الفكرية.

الأولى في كتاباته عن الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري. (973 -1057م)، وهو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري، الشاعر والفيلسوف واللغوي والمشهور من عصر الدولة العباسية، والذي لُقب بـرهين المحبسين أي محبس العمى ومحبس البيت الذي لازمه حتى وفاته.

فالحق أن د. طه حسين كان أول أديب ومفكر عربي معاصر يُقلب في أوراق أبي العلاء المعري الشائكة. ويبدأ حياته العملية برسالته للدكتورة عن ذكرى أبي العلاء. والتوقف أمام هذه الشخصية ليس فقط من حيث التماثل في بعض الصفات بينهما مثل اصابة الاثنين بالعمى. وإنما في جرأة كليهما في الفكر رغم أن أبي العلاء سبق طه حسين بنحو 9 قرون كاملة. يكشف الكثير من الأمور.

منها أن وقفة د. طه حسين أمام أفكار وتراث أبي العلاء المعري، كانت تنبىء بمفكر مختلف. يهوى الجرأة ويرفض المسلمات ويقرع أبواب التخلف والجهل بكل قوة. خصوصا وأن أبي العلاء معروف في الأوساط الدينية والفكرية والشعرية أنه كان فيلسوفا مجدفًا وقيل عنه أنه تطاول بكتاباته على الأديان وليس دين واحد فقط!

كما كان المعري على جانب عظيم من الذكاء والفهم وحدة الذهن والحفظ وتوقد الخاطر، وهو ما كان متوفرًا في العملاق طه حسين أيضا.

وقد عاش المعري بعد اعتزاله الناس زاهدًا في الدنيا، معرضًا عن لذاتها، لا يأكل لحم الحيوان حتى قيل أنه لم يأكل اللحم 45 سنة، ولا ما ينتجه من سمن ولبن أو بيض وعسل، ولا يلبس من الثياب إلا الخشن. حتى توفي عن عمر يناهز 86 عامًا، ودفن في منزله بمعرة النعمان. كما أن طه حسين وفي المقارنة بينهما عاش حياة ممتدة أيضا ومات سنة 1973 عن عمر يناهز الـ 83 عاما.

آراء "أبي العلاء المعري"، في الدين كانت شائكة صاخبة خلال حياته وبعد موته ومثله كان د. طه حسين. وقد تعددت الآراء حول آراء المعري في الدين وهناك خلاف في هذه المسألة.

وان كان هناك رأي واسع، يقول بأن المعري من المشككين في المعتقدات الدينية، وندد بالخرافات في الأديان. كما وصف بأنه مفكر متشائم، ونقلت عنه بعض العبارات الفجة المثيرة: مثل الدين "خرافة ابتدعها القدماء" لا قيمة لها إلا لأولئك الذين يستغلون السذج من الجماهير.

لكن بعض المفكرين الكبار أمثال د. طه حسين وبنت الشاطىء الكاتبة الإسلامية المعروفة طهرا أبا العلاء المعري من كل هذه الاتهامات والدسائس.

فقالت بنت الشاطئ د. عائشة عبد الرحمن عن أبي العلاء:

"وشاعت كلمت السوء فيه، ومن شأنها أن تشيع فجُرِّح ببعض ما قال مما قد يوهم ظاهره ويشكل، وبغيره مما لم يقل. وإن أكثر مصنفاته لفي الزهد والعظات وتمجيد الله سبحانه وتعالى. وديوان ( اللزوم ) نفسه مليء بنجوى إيمانه الصادق، وأناشيد ضراعته للخالق، جل جلاله ...وشهد له الذين عرفوه عن قرب، بنقاء العقيدة ورسوخ الإيمان. وفيهم من كان قد استراب في أمره، تأثرا بشائعات السوء، ثم بان له من حقيقته ما جعله يشهد له بصحة الدين وقوة اليقين".

فيما قال د. طه حسين عنه " أبا العلاء قد هداه عقله إلى أن لهذا العالم خالقًا، وإلى أن هذا الخالق حكيم. لا يشك في ذلك، أو على الأقل لا يظهر فيه شكًا... وهو إذا تحدث عن هذا الخالق الحكيم تحدث عنه في لهجة صادق يظهر فيها الإخلاص واضحًا جليًا. ولكنه عاجز عن فهم هذه الحكمة التي يمتاز بها هذا الخالق الحكيم. وعجزه عن فهم هذه الحكمة هو الذي يضنيه ويعنِّيه ويعذبه في نفسه أشد العذاب. خالق حكيم، خلق هذا العالم ورتبه على هذا النحو الذي رتبه عليه. ولكن لماذا؟". وربما كان هذا السؤال الفلسفي الهائل هو من خلق أجيالًا من الفلاسفة والمفكرين يبحثون ويدرسون ويستنتجون في متاهات هذا الكون العظيم لله سبحانه وتعالى.

فيما قال د. شوقي ضيف عنه "وواضح أنه – أي أبي العلاء المعري- لا يهاجم الديانات نفسها وإنما يهاجم أصحابها, وفَرْق بين أن يهاجم الإسلام والمسيحية واليهودية, وبين أن يهاجم المسلمين والنصارى واليهود وأن يثبت عليهم في عصره نقص عقولهم, فقد اختلف أصحاب كل دين، وتوزعوا فرقًا كبيرة. فإذا هتف بأن من يتبعون أمثال هذه المذاهب لا عقول لهم لم يكن معنى ذلك أنه يهاجم الاسلام، إنما يهاجم المسلمين بعصره، وبالمثل النصارى واليهود..

وأمام هذه الشخصية المثيرة للجدل، جاءت وقفة د. طه حسين في بداياته من خلال رسالة الدكتوراة الأولى له. يقرع أبواب فكره ويناقشها ويعيد أبي العلاء للحياة المعاصرة والصخب مرة ثانية.

أيضا في حياة د. طه حسين، الكثير والكثير الذي يقال، لكني من وجهة نظر شخصية أقف سريعًا امام كتاب لا يزال معروفًا ولا يزال يوزع حتى الحظة ويعاد طبعه بآلاف النسخ وهو" الفتنة الكبرى.. عثمان". والجزء الثاني منه "الفتنة الكبرى "علي وبنوه". والحق أنه واحدا من الكتب المشهود لها في الفكر الاسلامي المعاصر. لأنه توقف وبتجرد تام أمام أحداث الفتنة الكبرى في صدر الاسلام بين "علي ومعاوية بن أبي سفيان. وقبلها فتنة مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه. والتي فرقت المسلمين من وقتها وإلى الآن. وهو كتاب أعتقد أنه يستحق قراءة جديدة له اليوم، تجلي ما فيه من أفكار وتوضح جرأة العميد في الكتابة عن العديد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وربط مواقفهم بأحداث عصرهم وكيفية تعاملهم مع هذا الحدث الهائل.

.. وبعد هل كتبنا شىء عن د. طه حسين؟ للأسف لم أغمس سوى إبرة مخيط في بحر علمه وكتبه وتراثه ومعاركه. لكنها وقفة مع هرم ثقافي يفخر المصريون به وباسهاماته التنويرية الكبرى. واعتقد أنه ليس مهما فقط، أن يدرس كتاب الأيام في المدارس الابتدائية. أو أن يدرس كتابه الشيخان كما كان قبل سنوات لطلاب المدارس الثانوية. فالتحية الحقيقية لطه حسين والذي تولى وزارة المعارف عام 1950 وبقى في المنصب حتى عام 1952 واعتبر " التعليم كالماء والهواء". أن يدرس كل فكر طه حسين في مختلف الفصول الدراسية. وتقدم قصة حياته واسهاماته في التنوير في ملخص صغير للنشء. فمثله لا يموت ومثله مصباح تنير به الأمم طريقها وتتخلص من براثن الجهل والتخلف.

بقى أن نقول لمن يقفون بالضد وحتى اللحظة من طه حسين أنه

ذهب لأداء فريضة الحج عام 1955، واستغرقت رحلته تسعة عشر يومًا، وكان لهذه الرحلة صدى واسع في كل مكان آنذاك، وكان استقباله هناك استقبالًا مهيبًا، وعرسًا لا مثيل له. فكان في استقباله الملك سعود، والأمراء والأعيان والوجهاء والأدباء والإعلاميون، واحتفت به المؤسسات الثقافية والهيئات العلمية كافة. كما استقبلته هناك بعثة الأزهر الشريف، وكان من بينها الشيخ محمد متولي الشعراوي، إذ كان يعمل آنذاك أستاذًا في كلية الشريعة، والذي لم يقف من طه حسين موقفًا سلبيًا، مجاراة لزملائه الأزهريين المعروفة خصومتهم آنذاك لطه حسين، بل على العكس، رحب به ترحيبًا كبيرًا، وحيَّاه، وأعرب طه حسين عن سعادته بهذه الرحلة الإيمانية إلى الحجاز، فقال "لقد تركتْ زيارتي للحجاز آثارًا قوية رائعة في نفسي، لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث. وحسبك أنها الموطن الذي أشرق منه نور الإسلام، ونشأت فيه الحضارة العربية الإسلامية. وما أعرف قُطرًا من أقطار الأرض أثَّرَ في عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم كما أثَّرتْ هذه البلاد، وكما أثّرَ الحجاز فيها بنوع خاص".

رحم الله د. طه حسين

ونختم بأبيات من القصيدة التي رثاه به الشاعر الكبير نزار قباني:

إرم نظارتيكَ ما أنتَ أعمى \ إنما نحن جوقةُ العميانِ

أيها الأزهريُّ يا سارقَ النارِ \ ويا كاسرًا حدودَ الثواني

عُدْ إلينا فإن عصرَك عصرٌ \ ذهبيُّ ونحن عصرٌ ثاني


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط