الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب .. كيفك إنت (٣)

صدى البلد

استجمع قواه حتى يفي بوعده وينتظر حتى الصباح ليهاتفها. ظلت الأفكار تتنازعه حتى تأخر الوقت كثيرًا فلم يعُد اختيار الاتصال بها واردًا. ظل ينظر إلى ساعة الحائط المعلقة في غرفة جلوسه وهو غارقٌ في شروده حتى دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل. 

كان تفكيره قد أصبح مشوشًا مهزوزًا كعقرب الثواني بقفزته المتراقصة غير الثابتة.. فتارةً يفكر في مباغتتها كما باغتها في المطار فيتصل بها قبل أن تنقضي الليلة؛ وتارةً أخرى يؤثر الانتظار حتى الصباح كي يجمع شتات نفسه وأفكاره ويعطي نفسه فرصةَ حسن انتقاء كلماته. كان يشعر أن القدر أعطاه فرصةً جديدة، وكان من الحماقة أن يترك الأمور تجري من تلقاء نفسها.. أراد أن يزن تصرفاته وأن يملك مشاعره تحسبًا لأي رد فعل منها قد يطيح بما تبقى من أحلامه.

تخيل نفسه وهو يهاتفها؛ فهل يكتفي بالاطمئنان عليها ويسألها عن أحوالها؟ أم يتطرق للحديث عن أحواله منذ آخرِ مرةٍ رآها فيها؟ أم يتذرع برغبته في المرور عليها حتى يستعيد سترته ويُعيد إليها نظارتها الشمسية.. كان يتخيل كيفية سير الحديث لكل من هذه الاحتمالات ويحاول أن يسُد ثغرات يعلم أنها ستحسن استغلالها -إذا هي أرادت- لإفساد مخطته. أعد لنفسه رابعَ قدحٍ من القهوة التركية وأدار مشغل الأغاني ليستمع لصوت فيروز من جديد، رفيقة أيامهما الخوالي، والشاهد الاول على حبهما.. وعلى أحزانه. وقف ينظر من شرفة غرفة الجلوس نحو السماء.. كانت برودة ما قبل الفجر قد بدأت في السريان في أوصاله فتجرع قدح القهوة على دفعةٍ واحدةٍ ليكوي بمرارتها تدافع الأفكار بداخل عقله. وضع القدح على المائدة بجوار نظارتها رفيقة أفكاره، كما كانت صاحبتها يومًا رفيقة كيانه ووجوده..

قله عيونه.. مش فجأة بينتسوا..
ضحكات عيونه ثابتين ما بينقصوا..

استيقظت مبكرًا بعد أن استطاعت أخيرًا أن تنال قسطًا بسيطًا من النوم.. ونصيب الأسد من القلق والأسئلة المتطايرة عبر سحب خواطرها: أتزوج، ألديه أولاد، أتراه انفصل أم مازال متزوجًا ولكنه لا يرتدي خاتما، هيئة تلك التي تمكنت من احتلال مكانها في قلبه وعقله.. اسمها.. شكلها.. حاولت كثيرًا ومنذ سنوات مضت أن تبحث عنه على حسابات التواصل الاجتماعي وعندما عثرت عليه أخيرًا من خلال أحد الأصدقاء المشتركين وجدت حسابه مهجورًا إلا من بعض المنشورات القديمة وتعليقات بسيطة لا تكشف عنه أية معلومةٍ أكيدة. كأنه كان يعرف أنها سوف تبحث عنه وتظل تتتبع أخباره فلم يرد أن يُيَسر عليها مهمتها، وأن يطفئ بعضًا من فوران فضولها تجاهه.

نظرت إلى المنبه بجوارها.. كانت الساعة قد شارفت على السادسة صباحًا. قبلت ابنها وذهبت إلى المطبخ لتعد له علبة طعامه ليذهب إلى مدرسته. من المفترض أن تذهب هي أيضًا للعمل اليوم ولكنها في حاجة إلى الراحة. انتهت من إعداد قدحا من الشاي ثم أضافت له بعضًا من الحليب. 

كانت تحب هذا المشروب البسيط الهادئ في الصباح والمساء. تعتبره مشروب الحياة، التي ما أن تزيد قسوتها وتتحول إلى ظلام حالك، يرسل الله لنا فيها إشاراتٍ لتنير لنا طريقًا جديدًا يعيد لها نقاءها ولون صباحها المشرق، ويعيد لنفوسنا به الأمل في عوضه الجميل.

قاطعت نفسها وأفكارها كمن لا يريد الاستسلام للأمل، كمن يعلم أن الأمل والألم رفيقا درب، لا يُذكر أحدهما دون أن يأتي الآخر مهرولًا خلفه. ذهبت لإيقاظ طفلها: داعبته ودغدغت جسده الصغير حتى أغرقت نفسها معه في بحر ضحكاته الطفولية التي أعادت إليها توازنها وبعضًا من قوتها. تناولت سترته من على الفراش كابحةٍ جماح رغبةٍ عارمة في احتضانها، وطوتها بعناية ووضعتها جانبًا، ثم اتجهت بطفلها إلى الحمام استعدادًا لبدء يومٍ جديد.

كانت الساعة قد شارفت على الثامنة، وكان هو مستيقظًا من الخامسة. قرر التخلص من كل قلقه وتوتره بأخذ حمامٍ دافئ قبل أن يهاتفها. أراد أن يعطي نفسه مهلةً لتخطي مفاجأة اللقاء، ويعطيها فرصةً أكبر للراحة من عناء السفر واستعادة صفاء ذهنها. لو سارت المكالمة على ما يرام فسوف لن يذهب إلى العمل اليوم وسيحاول رؤيتها. كان لابد له من طرق الحديد وهو ساخن. لن يترك زمام الأمور للصدفة كما فعل سابقًا منذ عشر سنوات، لم يعد يؤمن بمقولة "إذا أردت شيئا بشدة فأطلق سراحه.."، فهذا ما فعله من قبل. نعم لقد عادت إليه، ولكن بعد سنواتٍ من الألم والمعاناة والندم، بعد أن أفنى أحلى سني عمره في أحلام يقظةٍ لا طائل منها، وبعد أن عاش كالأموات. لم يدرك كم ما عاناه في غيابها إلا لحظة أن رآها في المطار. كان الأمر شبيهًا بمن طال عليه الليل فنسي كيف هو النهار، وتعجب ما أن طلعت عليه الشمس كيف تأتى له البقاء على قيد الحياة. كانت عيناه قد نسيتا النور، وكانت يداه قد ألِفتا البرود، حتى لسانه كان قد اعتاد الكلام بلا صدق، واعتاد القهوة دون أن يتذوق مرارتها، فقد كان قلبه يحمل أضعاف أضعافها.

أنهى حمامه وارتدى ملابسه وتناول قدحًا جديدًا من القهوة، ثم نظر إلى ساعته. كانت الساعة قد قاربت التاسعة إلا ربعًا. رن جرس هاتفه وأضاءت شاشته. اقترب ليقرأ الإسم وهو يرشف آخر جرعة قهوة، فإذا به إسمها. لم يصدق عينيه.. أيعقل أن تكون قد سبقته؟ أيفوق اشتياقها اشتياقه، أتفوقه لهفةً؟ أتعذبت جراء رحيلها مثلما تعذب، فأدركت أنه لا جدوى من الانتظار، ولا شفاء من داء الفراق سوى بدفء اللقاء؟ دار كل ذلك بذهنه في ثانية قبل أن يجيبها بصوتٍ يتهدج بلوعةِ العاشق ويصطنع الثبات:

- أهلا.. صباح الخير. إزيك؟

- صباح النور. الحمد لله.. كله تمام. بس كنت عايزة أشكرك جدا على تعبك معانا إمبارح. كتر خيرك. 

- لا العفو، تعبكم راحة يا ستي. على فكرة انتي نسيتي نضارتك على كنبة العربية. 

- وإنت كتر خيرك سبت لنا الچاكيت. ياريت لو تقدر تفوت تاخدها. أنا لفيتها وسبتهالك مع الأمن لأني للأسف طول النهار حأكون في الشغل.

يُتبع...