الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

التعايش المشترك فلسفة للخروج من الفوضى


بكل تأكيد أن الفوضى التي نعيشها الآن والتي ضربت منطقة مشرق المتوسط بقدر ما لها دوافعها الموضوعية مرتبطة بأجندات قوى الهيمنة الغربية العالمية، إلا أنه في نفس الوقت لها حقيقتها الذاتية المرتبطة بواقع المنطقة ومستوى التردي في كافة أشكال الحياة من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الفكرية والنفسية أيضًا. فلا يمكن لأية قوة خارجية أن تفرض نفسها على أي مجتمع إن لم تكن ثمة أرضية خصبة جاهزة لاستقبال تلك الأجندات الخارجية لتنمو وتتبرعم على تلك الأرضية لتغدو نبتة شوكية تقض مضاجع الشعوب والحكام بنفس الوقت. 


هذا ما نعيشه بكل معنى الكلمة في حالة الفوضى المستشرية في المنطقة عمومًا وكذلك تداعياتها المأساوية على المجتمعات والشعوب من دون أية تفرقة بين هذا المجتمع أو ذاك. الكل ضحية لهذه الفوضى التي ارتضينا بها وسكتنا عنها منذ عقود من الزمن وحان الوقت كي ندفع ثمن صمتنا وسكوتنا عن الحالة التي كنا نعيشها ونحسبها أن ستدوم. 


فوضى أم مؤامرة تُحاك علينا أو ضدنا فلا يهم لأن النتيجة واحدة وهي أننا أصبحنا كبش فداء وأضحية لكل المقدسات التي كنا نؤمن بها على أنها من الطابوهات التي لا يمكن الاقتراب منها أو حتى مجرد النقاش حولها. فها نحن الآن هجرنا معظم تلك المقدسات التي باتت لا معنى لها بالنسبة لنا، سوى أننا كنا نعبدها ونسجد لها وكنا مستعدون كي نضحي بحياتنا من أجلها. إلا أنه اكتشفنا بعد فوات الأوان أنَّ لا مقدس سوى الانسان بحدِ ذاته وكل خارج ذلك ليس سوى بدعة ليس لها أية قيمة تذكر.


مجموعة القيم الأخلاقية التي كانت السبب يومًا ما في نهوض الحضارة من منطقتنا وانتشارها في كل مكان، كانت سببًا لتكون المنطقة مهدًا للبشرية لتعلمهم معنى الأخلاق والكدح والجهد والاحترام والمحبة والارتباط بالبيئة والطبيعة. وحينما ابتعدنا عن قيمنا تلك وفعنا في مستنقع الثقافة الاستشراقية الغربية وصرنا أسرى لها نردد ما يقولوه لنا على أنه الحقيقة. رياء مغلف بألف خديعة كي يوهمونا أننا متخلفون وجهلة وعلينا مواكبة العصر والحضارة الغربية كي نصبح بشر. اغتراب عن الذات وفقدان الهوية الثقافية والمجتمعية لمشرق المتوسط، روحنا نقلد كالعميان ثقافة شمال المتوسط الأوروبي وغربه البعيد الأمريكي.


تقاتلنا على الهوية والمذهبية والطائفية والأثنية والدولة والقوموية وكلها باتت هويات قاتلة نتصارع عليها وبها من أجل أن نثبت أننا الأفضل والأنقى و "خير أمة أخرجت للناس"، وأما الباقون فهم كفرة ومرتدين وزنادقة وعلينا رميهم بالبحر. قرن من الزمن ونحن نتقاتل على أحقية العيش وعلى إثبات الوجود والدولة والسيادة والايديولوجيا والمذهب، وملايين الضحايا لمصطلحات اخترعناها فقط لنثبت أننا أفضل من الآخر. والآن في ظل الفوضى ما زلنا نتقاتل على الهوية وإثبات الوجود وعلى التاريخ والجغرافيا والهويات المهيمنة القاتلة.


كيف لنا أن نبني فلسفة مغايرة للخروج من هذه الفوضى التي لم تستثن أحدًا من الموت والقتل. معظم المشاريع التي تم تجربتها في القرن المنصرم لم تجدي نفعًا بل باتت مقصلة لنحر رقاب معتنقيها. فلا الأيديولوجية البعثية ولا الناصرية ولا حتى الدينية حلَّت ولو بعض القضايا التي كانت وما زالت تعيشها المنطقة.


وها نحن نرى أن تلك الأيديولوجيات مع بعضها تتصارع على أحقية قيادتها للمشروع الوحدوي حتى باتت الوحدة مجرد أوهام لا علاقة لها بالواقع. كذلك المشاريع الدينية الأحادية باتت من الماضي والتي حولت المجتمع إلى مجتمع متجانس واهن لا يستطيع التطور ولا حتى حماية نفسه. تم القضاء على الاختلاف والتباين والغنى المجتمعي تحت مسمى الحزب والمذهب، حتى أصبحنا نحارب طواحين الهواء عبثًا. فالتقدم لا يحصل في مجتمعات، تعيش الفوضى والاضطرابات المتنقلة، وإنما يحصل في المجتمعات المستقرة، والتي لا تعاني من مشكلات بنيوية فيه طبيعة خياراتها، أو شكل العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع والعكس.


لأن استخدام وسائل القهر والعنف، يفضي اجتماعيًا وسياسيًا، إلى تأسيس عميق لكل الأسباب المؤدية إلى التباعد بين الدولة والمجتمع وإلى بناء الاستقرار السياسي على أسس هشة وضعيفة، سرعان ما تزول عند أية محنة اجتماعية أو سياسية. فلا استقرار بلا عدالة، ومن يبحث عن الاستقرار بعيدًا عن قيمة العدالة ومتطلباتها الأخلاقية والمؤسسية، فإنه لن يحصد إلا المزيد من الضعف والهوان.


الفلسفة التي نطرحها هنا هي فلسفة التعايش المشترك وأخوة الشعوب التي ربما تكون الفلسفة التي ستخرجنا من حالة الفوضى التي تعيشها مجتمعاتنا في مشرق المتوسط. والتعايش المشترك يفرض علينا العودة إلى القيم المجتمعية التي اغتربنا عنها وهجرناها نتيجة انبهارنا المزيف بشعاع الثقافة الغربية الواهن كبيت العنكبوت. القيم الأخلاقية المجتمعية هي الأساس في العودة لحقيقتنا المجتمعية التي يمكننا فيها إعادة بناء مجتمعاتنا على أساس التعايش المشترك.


والتعايش المشترك كفلسفة طرحها السيد عبد الله أوجلان من خلال مجلداته كرؤية محتملة للخروج من الفوضى التي ضربت المنطقة. ويرى السيد أوجلان أن الأمة الديمقراطية التي أساسها العيش المشترك وأخوة الشعوب ستكون فلسفة الحياة في القرن الحادي والعشرون. والتعايش الذي قصده لا يعني الذوبان أو الإنهاء القسري للاختلافات والتباينات أو تجميدها، وإنما يعني وببساطة شديدة الاعتراف بحق الاختلاف وواجب المساواة. حينما نتحدث عن (التعايش بين أبناء الوطن الواحد) فإننا نتحدث عن السياسات التعليمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي ينبغي أن تساهم في تعزيز خيار التعايش، وتنهي كل المفردات والقضايا المضادة لمشروع التعايش على مستوى المناهج أو الأداء والممارسة.


وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى مشروعات الدمج بين المكونات الوطنية المتعددة، لأنه وببساطة شديدة المجتمع في منطقتنا متعدد ومتنوع، ولا يمكن بناء هوية وطنية مشتركة، إلا على قاعدة الاعتراف بحقيقة التنوع في المجتمع، والعمل على بناء مشروع متكامل للاندماج الوطني.


مظاهر العنف والفوضى التي تشهدها بعض البلدان، هي ليست من جراء وتداعيات حقيقة التنوع والتعددية الموجودة في هذه البلدان، وإنما هي لغياب صيغة حضارية تجمع بين حقيقة الاختلاف الذي لا يمكن نبذه وإنهاؤه من الوجود الإنساني وبين ضرورات العيش المشترك. لهذا فإن الوصول إلى صيغة سياسية وثقافية ومجتمعية لهذا الأمر هو الذي سيحدد شكل المستقبل السياسي للمنطقة. فكيف يمكن بناء رؤية وطنية في كل منطقتنا لا تغفل حقيقة التعدد والتنوع والاختلاف، ولا تتجاوز متطلبات الوحدة والعيش المشترك.


لهذا نحن بحاجة إلى أن نبحث في صياغة أخرى للحل والمعالجة، لا تلغي حق الاختلاف والتنوع والتعددية، كما أنها لا تشرع للانحباس والعزلة أو للفوضى. ولفهم هذه الظاهرة "كما يعبر جوزيف ياكوب في كتابه ما بعد الأقليات، بديل عن تكاثر الدول" حيث يقول: (وما تنبئ به، لابد من إدراك معنى الانقلاب التاريخي الذي تشتمل عليه فبعد حركة توحيد طويلة أدت إلى انتصار الدولة -الأمة في القرن العشرين- سيكون القرن الواحد والعشرين، دون شك، قرن تحطيمها، لأن السعي إلى الدمج المتعارض مع التفتيت، يدفع، من الآن فصاعدًا التمايز قدمًا أمامه.


إذًا، فهذا المنعطف التاريخي الحقيقي، المترافق بشكل متناقض مع تحرك نحو الكونية، يفرض تقلبًا في مفهوم الدولة القومية، والاعتراف بإمكانية توزيع سلطة الدولة، والحكم الذاتي في إطارها، والتمايز المحلي.


ومن خضم المعاناة الإنسانية في مناخات عولمة وطموحات غربية لا تقيم للفرد قيمة يبقى سؤال ينبغي طرحه: هل يمكن أن يعيش الإنسان حياة مشتركة مع الآخرين بغض النظر عن هويته؟ إذا كان الجواب بالسلب، فهذا يعني بأن كوكبنا يضم في مواقع كثيرة في تضاريسه حياة آدمية يلزمها الكثير لتغدو إنسانية!).

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط