الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في ذكرى ميلاده.. محمود سامي البارودي تعرض لمحاولة اغتيال .. ونفته إنجلترا بمساعدة الخديوي

صدى البلد

يعد محمود سامي البارودي، الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده،  أول من كتب مقدمة لديوان شعري في العصر الحديث، وعرّف الشعر بأنه: "لغة خيالية يتألق وميضها في سماء الفكر فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب فيفيض بلآلئها نورًا يتصل خيطه بأسئلة اللسان فينبعث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك ".

و الشعر الجيد عند محمود سامي البارودي فهو: "ما كان قريب المأخذ سليمًا من وصمة التكلّف بريئًا من عشوة التعسف غنيًا من مراجعة الفكر"، وتأثر شعر البارودي بالنهضة الأدبية في العصر الحديث والتي أظهرت الاختلافات بين القديم والجديد؛ نتيجة لانتشار الثقافة العربية والاتصال بأوروبا عن طريق زيادة عدد المبتعثين الذين تخصصوا في فروع الأدب في الجامعات الغربية. 

ويعتبر البارودي رائد الشعر العربي الحديث الذي جدّد في القصيدة العربية شكلًا ومضمونًا، ولد محمود سامي البارودي، في 6 أكتوبر 1839 م في القاهرة، لأبوين من أصل شركسي من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي "أخو برسباي"، وكان أجداده ملتزمي إقطاعية إيتاي البارود بمحافظة البحيرة ويجمع الضرائب من أهلها، ونشأ في أسرة على شيء من الثراء والسلطان، فأبوه كان ضابطا في الجيش المصري برتبة لواء، وعُين مديرا لمدينتي بربر ودنقلة في السودان، ومات هناك وكان محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره.

تلقى البارودي دروسه الأولى فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، تعلم مبادئ النحو والصرف ودرس شيئا من الفقه والتاريخ والحساب، حتى أتم دراسته الابتدائية عام 1851، ولم يكن هناك في هذه المرحلة سوى مدرسة واحدة لتدريس المرحلة الابتدائية، وهي مدرسة المبتديان وكانت خاصة بالأسر المرموقة وأولاد الأكابر، ومع أنه كان من أسرة مرموقة، فإن والدته قد جلبت له المعلمين لتعليمه في البيت، التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية سنة 1852م، فالتحق بالمرحلة التجهيزية من المدرسة الحربية المفروزة وانتظم فيها يدرس فنون الحرب، وعلوم الدين واللغة والحساب والجبر، بدأ يظهر شغفًا بالشعر العربي وشعرائه الفحول، حتى تخرج من المدرسة المفروزة عام 1855 م برتبة "باشجاويش" ولم يستطع استكمال دراسته العليا، والتحق بالجيش السلطاني.

عمل بعد ذلك بوزارة الخارجية وسافر إلى الأستانة عام 1857م، وتمكن في أثناء إقامته هناك من إتقان التركية والفارسية ومطالعة آدابهما، وحفظ كثيرًا من أشعارهما، وأعانته إجادته للغة التركية والفارسية على الالتحاق بقلم كتابة السر بنظارة الخارجية التركية وظل هناك نحو سبع سنوات 1857-1863، ولما سافر الخديوي إسماعيل إلى العاصمة العثمانية بعد توليه العرش ليقدم آيات الشكر للخلافة، ألحق البارودي بحاشيته، فعاد إلى مصر في فبراير 1863م، عينه الخديوي إسماعيل معينًا لأحمد خيري باشا على إدارة المكاتبات بين مصر والأستانة.

وضاق البارودي برتابة العمل الديواني وحنّ إلى حياة الجندية، فنجح في يوليو عام 1863م بالانتقال من معية الخديوي إلى الجيش برتبة بكباشي، أُلحقَ بآلاي الحرس الخديوي وعين قائد الكتيبتين من فرسانه، وأثبت كفاءة عالية في عمله، في أثناء ذلك اشترك في الحملة العسكرية التي خرجت سنة  1865م لمساندة الجيش العثماني في إخماد الفتنة التي نشبت في جزيرة كريت، واستمر في تلك المهمة لمدة عامين حيث أبلى البارودي بلاء حسنًا، وقد جرى الشعر على لسانه يتغنى ببلده الذي فارقه، ويصف جانبًا من الحرب التي خاض غمارها.

وبعد عودة البارودي من حرب كريت تم نقله إلى المعية الخديوية وعين بمنصب المرافق الشخصي ياور الخاص للخديوي إسماعيل، وقد ظل في هذا المنصب ثمانية أعوام، ثم تم تعيينه كبيرًا لياوران ولي العهد "توفيق بن إسماعيل" في يونيو 1873م، ومكث في منصبهِ سنتين ونصف السنة، عاد بعدها إلى معية الخديوي إسماعيل كاتبًا لسره (سكرتيرًا)، ثم ترك منصبه في القصر وعاد إلى الجيش.

ولما استنجدت الدولة العثمانية بمصر في حربها ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب، كان البارودي ضمن قادة الحملة الضخمة التي بعثتها مصر، ونزلت الحملة في "وارنة" أحد ثغور البحر الأسود، وحاربت في أوكرانيا ببسالة وشجاعة، غير أن الهزيمة لحقت بالعثمانيين، وألجأتهم إلى عقد معاهدة سان ستيفانو في مارس 1878م، وعادت الحملة إلى مصر، وكان الإنعام على البارودي برتبة "اللواء" والنيشان المجيدي من الدرجة الثالثة، ونيشان الشرف؛ لِمَا قدمه من ضروب الشجاعة وألوان البطولة.

تم تعيينه مديرًا لمحافظة الشرقية في أبريل 1878م، وسرعان ما نقل محافظًا للقاهرة، وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة حرجة من تاريخها، بعد أن غرقت البلاد في الديون، وتدخلت إنجلترا وفرنسا في توجيه السياسة المصرية، بعد أن صار لهما وزيران في الحكومة المصرية، ونتيجة لذلك نشطت الحركة الوطنية وتحركت الصحافة، وظهر تيار الوعي الذي يقوده "جمال الدين الأفغاني" لإنقاذ العالم الإسلامي من الاستعمار، وفي هذه الأجواء المشتعلة تنطلق قيثارة البارودي بقصيدة ثائرة تصرخ في أمته، توقظ النائم وتنبه الغافل.

غير أن الخديوي توفيق نكص على عقبيه بعد أن تعلقت به الآمال في الإصلاح، فقبض على جمال الدين الأفغاني ونفاه من البلاد، وشرد أنصاره ومريديه، وأجبر شريف باشا على تقديم استقالته، وقبض هو على زمام الوزارة، وشكلها تحت رئاسته، وأبقى البارودي في منصبه وزيرًا للمعارف والأوقاف (18 أغسطس 1879 - 21 سبتمبر 1879)، بعدها صار وزيرًا للأوقاف في وزارة رياض (21 سبتمبر 1879 - 10 سبتمبر 1881).

ثم تولى البارودي نظارة الحربية في 14 سبتمبر 1881 في الوزارة التي شكلها شريف باشا عقب الثورة العرابية خلفًا لعثمان رفقي باشا إلى جانب وزارته للأوقاف، بعد مطالبة حركة الجيش الوطنية بقيادة عرابي بعزل رفقي، وبدأ البارودي في إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضباط والجند، لكنه لم يستمر في المنصب طويلًا، فخرج من الوزارة بعد تقديم استقالته في 22 أغسطس 1881؛ نظرًا لسوء العلاقة بينه وبين رياض باشا رئيس الوزراء، الذي دس له عند الخديوي.

وتولى رئاسة النظارة إلى جانب نظارة الداخلية في 4 فبراير 1882 - 17 يونيو 1882، وكان أول رئيس وزراء في تاريخ مصر لم يعينه الخديوي بل ينتخبه مجلس النواب، ومن أجل ذلك أطلقت على وزارته اسم "وزارة الثورة" أو الوزارة الوطنية.

تم كشف مؤامرة قام بها بعض الضباط الجراكسة لاغتيال البارودي وعرابي، وتم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين، فقضت بتجريدهم من رتبهم ونفيهم إلى أقاصي السودان، ولمّا رفع "البارودي" الحكم إلى الخديوي توفيق للتصديق عليه، رفض بتحريض من قنصلي إنجلترا وفرنسا، فغضب البارودي، وعرض الأمر على مجلس النظار، فقرر أنه ليس من حق الخديوي أن يرفض قرار المحكمة العسكرية العليا وفقًا للدستور، ثم عرضت الوزارة الأمر على مجلس النواب، فاجتمع أعضاؤه في منزل البارودي، وأعلنوا تضامنهم مع الوزارة، وضرورة خلع الخديوي ومحاكمته إذا استمر على دسائسه.

انتهزت إنجلترا وفرنسا هذا الخلاف، وحشدتا أسطوليهما في الإسكندرية، منذرتين بحماية الأجانب، وقدم قنصلاهما مذكرة في 25 مايو 1882م بضرورة استقالة الوزارة، ونفي عرابي، وتحديد إقامة بعض زملائه، وقد قابلت وزارة البارودي هذه المطالب بالرفض في الوقت الذي قبلها الخديوي توفيق، ولم يكن أمام البارودي سوى الاستقالة، ثم تطورت الأحداث، وانتهت بدخول الإنجليز مصر، والقبض على زعماء الثورة العرابية وكبار القادة المشتركين بها، وحُكِم على البارودي وستة من زملائه بالإعدام، ثم خُفف، في 3 ديسمبر 1882، إلى النفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب (سريلانكا).

ظل في المنفى بمدينة كولومبو عاصمة سيريلانكا حاليا أكثر من سبعة عشر عامًا يعاني الوحدة والمرض والغربة عن وطنه، فسجّل كل ذلك في شعره النابع من ألمه وحنينه، وفي المنفى شغل البارودي نفسه بتعلم الإنجليزية حتى أتقنها، وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغة دينهم الحنيف، وإلى اعتلاء المنابر في مساجد المدينة ليُفقّه أهلها شعائر الإسلام، وطوال هذه الفترة نظم قصائده الخالدة، التي يسكب فيها آلامه وحنينه إلى الوطن، ويرثي من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه، ويتذكر أيام شبابه ولهوه وما آل إليه حاله، ومضت به أيامه في المنفى ثقيلة واجتمعت عليه علل الأمراض، وفقدان الأهل والأحباب، فساءت صحته، بعد أن بلغ الستين من عمره اشتدت عليه وطأة المرض وضعف بصره فقرر عودته إلى وطنه مصر للعلاج، فعاد إلى مصر يوم 12 سبتمبر 1899م وكانت فرحته غامرة بعودته إلى الوطن.

بعد عودته إلى القاهرة ترك العمل السياسي، وفتح بيته للأدباء والشعراء، يستمع إليهم، ويسمعون منه، وكان على رأسهم شوقي وحافظ ومطران، وإسماعيل صبري، وقد تأثروا به ونسجوا على منواله، فخطوا بالشعر خطوات واسعة، وأُطلق عليهم "مدرسة النهضة" أو "مدرسة الإحياء"، وتوفي في 12 ديسمبر 1904م بعد سلسلة من الكفاح والنضال من أجل استقلال مصر وحريتها وعزتها.