الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تأْمُّلاَتْ.. في حَياة نَجيب مَحْفوظْ


• اتَّسَمَتْ حياة "نَجيب مَحْفوظ" بِالبَساطة والتَسامُح والعُذوبَة والفِهْم العَميق لِطَبيعة النَفْسِ الإنْسانية والمَحَبَّة الحَقيقية لِلْبَشَرِ والحياة – فَقَدْ بَنى حَياتَهُ كُلَّها على الحُبْ – وتَتضِحْ فَلْسَفة نَجيب مَحْفوظ تِجاه الأدَب والحياة مِنْ قَوْلِهِ "... لَمْ أَكُنْ لِأَصِل إلى ما وَصَلْتُ إليْهِ، لولا أنْ وَطَدْتُ نَفْسي مِنَ البِداية على أنَّ الكِتابة "رِسالةً وعَزاءْ" – "رِسالَةً" يَجِب أَنْ أُؤدْيها مَهْما تَكُنْ التَضْحياتُ كَبيرةٌ والمُقابِلُ ضَئيلًا – و"عَزاءً" لأنَّ كُلَّ ما يُحْزِنُني في هذا العالَم تُعَزِّيني عَنْهُ الكِتابة ...". فَكانتْ الكِتابة الأدَبية لَدى نَجيبْ مَحْفوظ رِسالَتَهُ التي ألْزَمَتْهُ الزُهْد والتَقَشُّف واتِباع نِظام يَوْمي صارِم لِلْعَمَل على مَدى سَنَواتٍ طُوالْ مِنَ الكِتابة والإبْداع المُتواصِل على مَدار هذا العُمْر – وعِنْدَما جاءَتْهُ "جائِزة نوبِل" بَعْدَ رِحْلة العَطاءِ الطَويل – كانَتْ تَقْديرًا لِإبْداعِهِ الذي تَجاوَزَ مَحَليَّة الواقِعَ المَصْري وصِدْقَهُ في التَعْبير عَنْهُ لِيُحَلِّقَ على المُسْتَوى الكَوْني لِكُلِّ ما يَمورُ بِهِ مِنْ مُعْضِلات فَلْسَفية و رَوْحية وأخْلاقية.

 

• لَمْ تَكُنْ دَوافِعْ "نَجيب مَحْفوظ" عِنْدَما قَرَّرَ الاشْتِغال بِالأدَب، السَعْي إلى الشُهْرة أوِ الحُصول على المال – إنَّما كانَ دافِعَهُ الأساسي إخْلاصُهُ لِفَنِّهِ ومَحَبَّتِهِ لَهُ – مِثْلَما كانتْ لَدَيْهِ القُدْرة على تَجاهُل ذاتِهِ والاهتِمام بِالآخَرين – يَقولُ الشاعِر "مُحَمَّد إبْراهيم أبو سِنَّة"... "كُنْتُ كُلَّما جَلَسْتُ مَعَهُ، أُعِدُّ نَفْسي طالِبَ عِلْم يَتَعَلَّم مِنْ شَيْخِ الطَريقة – لَيْسَ فَقَطْ على مُسْتَوى المَعْرِفة ولَكِنْ على المُسْتَوى الإنْساني !؟!..." – كانَ مَحْفوظ يَبْدو كَشَخْصيةٍ عادية لِلْغاية – فَمَلامِحَهُ المَصْرية تُنَبِّئُ بِنَشْأتِهِ في الأحْياءِ الشَعْبية – فَمَنْطِقُهُ واضِحٌ قَريب مِنَ القَلْبِ والعَقْلِ لِكُلِّ إنْسان – حتى أنَّ الكَثيرين مِمَّنْ كانوا يَقْتَرِبونَ مِنْهُ مِنْ كُتَّابِ القِصَّة والرِواية، مُعْتَقِدينَ أنَّ بِإمْكانِهِم أنْ يَكْونوا مِثْلَهُ – فَكانَ اقْتِرابَهُم ليَتِمَّ تَسْليطَ أضواءَ الإعْلامِ عَلَيْهِم – بَيْنَما كانَ هوَ يَتَمَتَّع بِالدُّعابة وخِفَّةِ الظِلْ التي جَعَلَتْ مِنْهُ شَخْصية مُحَبَّبة يَلْتَفَّ حَوْلَها الجَميع – فَكانَ يَتْرُكْ مِنَ الأثَرِ الطَيِّب على كُلِّ مَنْ قابَلَهُ أوِ التَقاهُ ولو مِنْ بَعيد.

 

• كانَتْ "الحارة" عِنْدَ نَجيبْ مَحْفوظ هي أَهَم مَعْلَمْ مِنْ مَعالِمِ الحياة لَدَيْهِ – رُبَّما يَضيقُ مَداها الدلالي فَتَكادُ تَقْتَصِرُ على مُجَرَّد التَعْبير لِإدْراكِ كَثيرِ مِنَ تَصاريفِ البَشَرْ مِنْ أهْواء ورَغَبات، أو تَتَّسِعُ فَتَغْدو الحارة رَمْزًا لِلحياة الإنْسانية كُلِّها – فَقَدْ أخْلَصَ مَحْفوظ لِمَنْ كانَ يَعيشُ بَيْنَهُم مِنْ أهْلِ الحارات والأزِقَّة الضَيِّقة – فَضْلًا عَنِ العالَم الأُسْطوري الذي صَنَعَهُ خَيالَهُ الفَريد، مُسْتَدْعيًا مِنْ خِلالِه وعَبْرَ أعْمالِهِ كُلِّها قيَمِ الحُرِّية والعَدْل. ورُبَّما تَحَقَّقَ لِمَحْفوظ الوَعْي بِما يُريدُ في سَعْيِهِ الدائِم إلى المَعْرِفة – فَيَحْدُث التَكامُل بَيْنَ الوَعْي والحُرِّية لَدى قارِئِهِ مِنْ خِلال امتِلاك الوَعْي العَميق بِما يَحْتَوي عَلَيْهِ المَشْهَدِ السياسي والثقافي والاجتِماعي مِنْ تَناقُضات – فَهَدَفَهُ الدائِم هوَ التَحَرُّك نَحْو المُسْتَقْبَل بِامتِلاكِ الوَعْي وتَحْفيزِ الإرداة لِتَصْحيحِ الواقِعِ الرَدئ والتَسامي فَوْقَ مَشْهَدِ التَناقُضِ البَغيض – يَقول نَجيبْ مَحْفوظ – في أحد أحاديثِهِ "... كَتَبْتُ عَنِ الأماكِنِ التي عِشْتُ بِها – عَنِ الحَواري والأزِقَّة التي تَجَوَّلَتْ فيها، والبَشَر الذين مَشَيْتُ بَيْنَهُم – كَتَبْتُ عَمَّا أُحِسَّهُ وأشْعُرُ بِهِ تِجاه كُلَّ ذَلِكْ – وعَمَّا أُفَكِّرُ وأحْلُمُ بِهِ لِلعالَم ...!؟!" – فَكانتْ الحارة المَصْرية ونِظامِ الفِتوَّات السائِد فيها هي "البَوْتَقة التي شَكَّلَتْ سِماتِ الشَعْب المَصْري عَبْرَ التاريخ - "الفتوَّات" هُم رَمْزِ الحُكَّام والسادة والقادة على تَبايُنِهِم – بَيْنَما تَمَثَّلَتْ في الحارة أطْيافِ المصريين على اخْتِلاف مَشارِبَهُم.

 

• على الرَغْم مِنْ سِمات شَخْصية "مَحْفوظ" التي يَبْدو عَليْها الهُدوءِ الظاهِري وإنْسانيتِهِ الواضِحة، فَإنَّهُ كانَ يَلْتَزِم "الدقَّة الشَديدة" في عَدَمِ الخَلْطِ بَيْنَ عَمَلَهُ الوَظيفي وإبْداعِهِ الأَدَبي – وظَلَّ طوال حياتَهُ مُهْتَمًَّا بِالثقافة والمَعْرِفة في مَجالاتِ الأدَبِ والسياسة والاجتِماع، مُتابِعًا كُلَّ ما يَجْري على الساحة العالمية – وكانَ يَتَرَفَّع عَنِ الدُخول في مُهاتَرات أو صِدام مَعْ أحَد، بَلْ إنَّهُ اهتَّمَ بِإبرازِ صِفات أوْلادِ البَلَدِ الحَقيقيين الذين انْتَمي إليْهِم دَوْمًا، وكانوا يَتَحَلَّونَ بِالشَهامةِ والنُبْلِ في أعْمالِهِ الرِوائية – كَفنَّان يَمْتَلِك مَوْهِبة نادِرة بِكُلِّ ما فيها مِنْ ثَراءِ الأْفكار التي تَتَّصِل بِالمُجْتَمَع والحياة – وقَدِ حَرِصَ "نَجيبْ مَحْفوظ"في حَياتِهِ أنْ يَنْفي عَنْ نَفْسِهِ صِفَةِ المُفَكِّر – بِقَوْلِهِ – "إِنَّهُ يُمْكِن وَصْفَهُ بِأنَّهُ أَديبْ، وإنَّما لا يُوافِقْ على أنْ يوصَفْ بِأنَّهُ مُفَكِّر ...!؟!" – فَهوَ كَأديب وفَنَّان لَهُ رؤْيَتَهُ وأفْكارَهُ ومواقِفَهُ، مِثْلَهُ في ذَلِكْ مِثْل أيِّ فَنَّان عالمي كَبير لَهُ تَصوُّراتَهُ وأحْلامَهُ فيْما يَتَعَلَّق بِالحياة والنَّاس – ولَمْ تَحْدُث مواجَهة بَيْنَ العِلْمِ والدين في أدَبِ نَجيبْ مَحْفوظْ – مِثْلَما يَتَخَيَّلِ البَعْض – فَإذا عرض لِلْقَضايا التي تَمِسُّ العَقيدة فَإنَّما يَعْرِضُ الرُّؤى والتَصوُّرات التي يُجَسِّدُها الخَيالِ الشَعْبي لِلقيَمِ الدينية عَبْرَ عُصورِ التاريخ.

 

• يَتَميَّز أُسْلوب "نَجيبْ مَحْفوظ" بِالعُذوبة – فَتَجِدْهُ يُعيدُ تَشْكيل العِبارات العامية ليَقْتَرِب بِها مِنَ العَربية الجَميلة التي تُعَبِّر في رَوْعَتِها ودِقَّتِها المُتَناهية عَنْ روحِ المَصْريين إلى أنْ وَصَلَ بِها إلى الشاعرية – فَالُّلغة عِنْدَهُ قَرينِ الحياة، فَلَمْ يُغادِرُ الفُصْحى طوال مَسيرَتَهُ الإبداعية التي استَمَرَّت زَهاء ثلاثة أرباع القَرْن – وكانَتْ نَظْرَتَهُ إلى "اللُّغة العامِّية" أنَّها مِنْ ضِمْن العُيوب والأمْراض المُجْتَمَعية التي يُعاني مِنْها المَصْريون – مثلها في ذَلِكْ مِثْلِ (الجَهْل والفَقْر والمَرَض) – لِهَذا اتَصَفَتْ لُغَتَهُ بالاعتِدال دونَ شَطَطْ أو جُمود – رَغْمَ ما حَفَلَتْ بِهِ أعْمالَهُ مِنْ كِتابات رَمْزية لَجأَ إليْها لِتحاشي الصِدام مَعَ أزَماتِ الواقِع وتَداعياتَهُ، بَلْ والعُلو عَلَيْهِ – مُسْتَلْهِمًا مَعْنى الحياة وسِرِّ الوجود عَبْرَ "تراجيديا البَشَر" وصِراعِهِم الأزَلي بَيْنَ الحق والضَلال – وكانَتْ قيَمِ "العَدالة والحُريَّة" هى أسْمى ما يَرْنو إليْهِ "نَجيبْ مَحْفوظ" مِنْ وَراء كِتاباتِهِ – وهو في ذَلِكَ مِثْلَ غَيْرِهِ مِنْ روَّاد الأدَبِ العالَمي الكِبار – مِمَّن يَرَوْنَ أنَّ الإنْسان هوَ المَسْئول عَنْ اختيار طَريقِهِ، وأنَّ مُشْكِلاتِ البَشَر مَكانِها الأرْض التي يَعيشونَ عَليْها، ولَيْسَتْ في السَّماء التي تُشْرِقُ عَلَيْهِم بِأنْوارِ الهِداية – وأنَّ المُناضِلين الحَقيقيين مِنْ أجْلِ حُريَّة الإنْسان وكَرامَتَهُ عَليْهِم مواجهة المُسْتَبدِّين والطُغاة – ولَيْسَ مُخالَفة الأنْبياء أو تَوْجيهِ الاتِهامات لَهُمْ.

 

• ... ظَلَّ "نَجيبْ مَحْفوظْ" حَتَّى الأيَّامِ الأخيرة مِنْ حياتِهِ يَكْتُبُ ويُعَبِّرُ عَنْ هَواجِسَهُ وأحْلامَهُ وآمالَهُ لِلبَشَر والإنسانية كُلِّها – ورَسَتْ سَفينَتَهُ قَبْلَ رَحيلِهِ على شاطِئ الصوفية بِكُلِّ ما فيها مِنْ جَمال وجَلال – كانَ الشاغِل الدائِم لِمَحْفوظ هوَ حياة الإنْسان، وامتِلاك ذَلِكَ الإنْسان لِوَعْيِهِ حَوْلَ العَدالة والحُرِّية، ودِفاعِهِ عَنْ حَقِّهِ فيهِما ...!؟!... لَقَدِ امْتَزَجَتْ الكِتابة والحياة عِنْدَ نَجيب مَحْفوظ – لِدَرَجة أنَّهُ لَمْ يَعُدْ لَدَيْهِ فَرق بَيْنَهُما – لِينالَ إجماعِ الكٌلِّ  مِنَ الحُبِّ والتَقْدير – فَقَدْ أشادَتْ بِهِ وبِأدَبِهِ كافَّة التيارات السياسية والدينية والثقافية – فَكانَ بِمثابة "المؤَرِّخ الأديب" لِمِصْر المُعاصِرة بِلا مُنازِع ...!؟!... ولأنَّ "نَجيبْ مَحْفوظْ" بَنى حياتَهُ كُلَّها على الحُبْ – فَقَدْ سألَهُ أحَد تَلاميذَهُ ذاتَ مَرَّة – كَيْفَ بِكَوْنِ الموْتِ مَحْبوبًا يا أُسْتاذي ؟!؟ – أجابَهُ الأُسْتاذ بِقَوْلِهِ – "... عِنْدَما يأْتي في مَوْعِدِهِ – دونَ أنْ يَتَقَدَّمْ أو يَتأخَّرْ ...!؟!...". 

 

يَقول نَجيب محفوظ في "أصْداءِ السيرة الذاتية" موَضِّحًا مَغْزى المَوْتِ ومَعْنى الحياة ...!؟!... "...الحياة فَيْضٌ مِنَ الذِكْريات تَصُبُّ في بَحْرِ النسْيان ... أمَّا المَوْت فَهوَ الحَقيقة الراسِخة ...!؟!... وأنَّ أشْمَلَ صِراعٍ في الوُجود ... هوَ الصِراع بَيْنَ الحُب والمَوْت ...!؟!..." – رَحِمَ الله "الأديبَ الكَبير" الذي عَشِقَ الحياة ... فأحَبَّتْهُ الحياة ...!!؟.

 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط