الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. رأفت محمود يكتب: اكتشاف إثيوبيا

صدى البلد


تتوالى المفاجئات التي ترد من التحركات الإثيوبية الأخيرة، سواء تجاه مواطنيها في الداخل بما يحدث ومازال في إقليم التيجراي أو منقطة بني شنقول التي يبنى فيها سد النهضة أو في منطقة شرق أفريقيا أو حتى سلوكها السياسي تجاه العديد من القضايا والتي منها بلا شك قضية سد النهضة.

كثيرًا ما يتم ذكر حصول آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام ومقارنة أهداف هذه الجائزة بسلوكه حاليًا تجاه العديد من القضايا، حيث تحل الصراعات في الكثير من المناطق التي اشتبك معها، ولكن مما هو جدير بالذكر إن هذه التحركات تتواكب مع تطلعات إثيوبية ليست ناشئة بناء على توجهات نظام حاكم حالي، بل هي في صلب العقلية الاستراتيجية الإثيوبية، فكثير من التحليلات ذهبت في اتجاه كأنه تم اكتشاف إثيوبيا وفي الحقيقة ما تقوم به هو استحقاق تسعى إليه دائمًا منذ العصر الامبراطوري لها.

وقد مثلت مثلًا قضية السيطرة على الموارد المائية التي تنبع من أراضيها هدف قومي لا تحيد عنه، سواء اختلف النظام الحاكم، أو حتى القومية التي تتولى السيطرة على مقاليد الحكم بها، لأنها اعتبرتها أحد ادواتها التي تمكنها من تحقيق أهدافها القومية.

 فتتبنى الدولة الاثيوبية مشروع للهيمنة المائية، وله شواهد منذ عقود ليس فقط تجاه مصر بل تجاه الدول المجاورة لها:

فمثلا بنت سد على نهر أونو الذي يصب في دول كينيا ليحجز حوالي 90 بالمئة من مياه بحيرة توركانا التي تتغذى من نهر أومو وسببت أزمة لأكبر بحيرة صحراوية في منطقة شرق أفريقيا، ولم تبال بالاحتياجات، أو الاضرار التي قد تقع على كينيا.

 وعلى الرغم من كون كينيا تعد خامس دولة أفريقية وقعت على اتفاقية حوض النيل في "عنتيبي" بأوغندا في عام 2010 إلا إنها لم تراع الشواغل الكينية تجاه السدود التي تبنيها على موارد المياه التي تصب داخل كينيا.

 وسعت بكل قوة لإعادة هندسة منهجية توزيع المياه في حوض نهر النيل سواء في منابعه من الهضبة الإثيوبية أو من المنابع الاستوائية، من خلال اتفاقية عنتيبي، وحاربت للخروج على قيود الاستحقاقات والأطر القانونية التاريخية لتشمل كافة دول الحوض وخلق حالة تشبه الاجماع من دول المنابع تجاه دول المصب، وهو الاتفاق الذي احتجت عليه مصر، والسودان لمساسه بحقوقهما التاريخية.

فهناك خط مستقيم تمضي عليه إثيوبيا، فلم تقر وتعترف بأية اتفاقية سواء أكانت طرفًا فيها أم لا، محتلة أو مستقلة وكاملة السيادة، ففي الإجمال فإنه سواء اتفاقيات فترة الاستعمار، والتي كانت تملك خلالها كامل السيادة، ولم تكن دولة محتلة أو بعده مثل اتفاقيات أعوام 1929 و1993، وحتى الاتفاقية الاحدث 2015 أو اتفاقيات 1891 أو 1902 أو 1906 في جميعها فإنها تذهب وتتفق، ثم تعترض وتحتج وتعتذر وتناور. في النهاية لن تلزم نفسها بشيء.

أيضًا الحالة العدائية التي واجهت بها إثيوبيا المحاولات المصرية الكثيرة للتفاوض بشأن سد النهضة ومجمل التحركات المصرية في الاقليم خاصة شرق إفريقيا، وهي تحركات تستهدف تحقيق المصالح المصرية في تلك المنطقة الاستراتيجية التي طالما كانت لمصر نفوذ بها بحكم إنها تعتبر الفناء الخلفي لمصر، فهناك منابع النيل بشقيها الحبشي، والاستوائي ومضيق باب المندب، ومنطقة شرق إفريقيا الاستراتيجية.

فما أن تقترب مصر من دولة، أو يقوم مسئول مصري بزيارتها حتى تخرج تصريحات من إثيوبيا تجاه الزيارة في تربص واضح تجاه التحركات المصرية، حدث هذا مع دولة جنوب السودان، وكذلك مع أرض الصومال، أو حتى التقارب المصري السودان الشمالي الذي اعتبرته موجهًا لها، كأنها حددت المنطقة ملعبًا لها، ولا تقبل وجود منافسين لها، وبما يشير إلى توجه دفين في الذهنية الإثيوبية تجاه مصر، وإنه لا يتعلق بإشكالية الخلاف حول السد، بل إن السد هو أحد الادوات التي توظف لصالح تعظيم مصالح إثيوبيا على حساب الاطراف الاخرى، وعلى رأسها مصر.

وثبت أن مشروع الهيمنة المائية هو مشروع هيمنة على الأرض، وتوسيع لحدودها، ونطاقها الإقليمي، لتوسيع نفوذ الدولة الإثيوبية، فهي مازالت لا تؤمن بحدودها المتوارثة منذ عهد الاستعمار، مع العديد من المزايا التي حصلت عليها، ومنها ضم اقليم اوجادين الصومالي إلى اراضيها، وكذلك الاستيلاء على منطقة بنى شنقول السودانية الأصل التي يبنى فيها سد النهضة حاليا.

ومع استقلال إريتريا، وغلق المنافذ البحرية على البحر الأحمر أمامها بات الصومال، وجيبوتي، وإريتريا وبالطبع السودان الشمالي أهداف للتحركات الإثيوبية، فلن ترضى أن تكون حبيسة المكان، وليس لها طلة بحرية بعد استقلال ارتيريا، لذا حرصت على الهيمنة على مقدرات الشعب الصومالي، كما تحاول الضغط على الدولة الكينية للاستفادة من موانيها من خلال مشروع الهيمنة المائية، لتكون الحاكم على القدرات الكينية المائية بما ينبع من أراضيها، وتكون المساومة واجبة هنا، وليس أمام كينيا سوى فتح موانيها للدولة الاثيوبية.

تتنازع القوميات داخل اثيوبيا، وتغيرت الآليات التي تستخدمها تجاه اقليميها ولكن في النهاية الأهداف الإثيوبية واضحة منذ نشأة هذه الدولة وهو مشروع دولة اقليمية كبرى لها طموح للهيمنة وفرض نفسها على الأخرين.

فآبي أحمد هو ابن المرحلة التي تمر بها إثيوبيا، وإن كان العامل الفيدرالي الذي يدير الدولة حاليًا معوقًا لما ترغبه من دور في المنطقة، فإن ما يحدث من تغيير لهذا العامل، وتكوين حزب مركزي وهو حزب الازدهار يقودها خلال المرحلة القادمة ليس فقط عودة لسلطة مركزية فوق القوميات الإثيوبية، بل هو نداء المرحلة، حيث أن التوزيع الفيدرالي الحالي لا يمكن الساسة وحكام إثيوبيا من فرض طموحهم وتوظيف كافة قدرات إثيوبيا لتحقيق هدف دولة إقليمية قوية يتم دعمها من العالم الغربي.

حدث هذا أبان فترة الحكم الإمبراطوري، وأبان فترة الحكومات المركزية، والتي لم تحقق شيء سوى التأثير على مقدرات الشعب الإثيوبي، الذي يوصف دائمًا بأنه الأقل حظًا في التنمية والحياة الكريمة، وعندما يضرب نظام مواطنيه بالطائرات، والدبابات، وصراع عرقي قد وجد بصيص من الأمل في الاتفاقية الأخيرة لتكوين حكم فيدرالي يراعي مصالح القوميات الإثيوبية، ولتحيا الفسيفساء الإثيوبية، والكيان الإثيوبي كما توصف الادبيات السياسية الغربية الدولة الإثيوبية، يأتي آبي أحمد ليعيد الكرة مرة أخرى، ويضطرب الاقليم الذي لا يهنأ ببعض الهدوء والمتخم بالإرهاب في الصومال ومنطقة شرق أفريقيا عموما، والصراعات العرقية والخلافات الحدودية بين دول المنطقة، وزاد عليها عامل الصراع المائي الذى تدفع إليه إثيوبيا الجميع إليه دفعًا.