الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد النجار يكتب: الأديان بين نار الصراع ورمضاء الدمج

صدى البلد

يعتقد أتباع كل دين أن دينهم هو الحق، كما يعتقد أصحاب كل مذهب في الدين أن مذهبهم هو الصواب، وليس في هذا إشكال، من الناحية الأخلاقية والإنسانية، لأن التباين بين الناس في أفهامهم، وفي مداركهم، وبيئاتهم، وثقافاتهم، ومن ثم دياناتهم، ومذاهبهم، أمر يتوافق مع الطبيعة البشرية، التي تقوم بالأساس على مبدأ الاختلاف، فقد قال الله تعالى، {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (سورة هود آية 118).

وحين نبه القرآن على ذلك، فقد وضعَنَا أمام حقيقتين، الحقيقة الأولى: هي أن دوام الاختلاف سنة كونية، وطبيعة بشرية. والحقيقة الثانية: هي ضرورة التعامل مع هذا الاختلاف على أنه واقع لا ينبغي محوه، أو التعالي عليه. لكن هذه النظرة القرآنية الكاشفة، يقابلها في الواقع لا سيما الآن في وقتنا الحاضر إشكالان: 
الأول هو: هل يقبل هذا الطرف أو ذاك وجود الطرف المخالف له، هل يقبل بوجوده معه في الحياة؟ 
الثاني هو: حين يقبل طرف ما بوجود المخالف له معه، فهل يقبل أيضًا بمساواته به في الوجود؟ 
وتبدو الإجابة على السؤال الأول سهلة، من منظور عقلاني، معتدل، فحين يؤمن الإنسان بأن الاختلاف بين البشر أمر تحتمه طبيعة الحياة، والإنسان، والقدر، يصبح تقبل وجود المخالفين أمرًا متيسرًا. وإذا كان الواقع يلبد هذه الإجابة بالأشواك، ويحيلها إلى مجرد نظر فكري حالم، في ظل واقع عالمي مليء بالمرارة، مضرج بالدماء، ملطخ بالخيانة والخداع، ومغرق في التطرف في تمجيد الذات، إلى حد نفي الآخر، أو تجاهل وجوده، أو العمل على سحقه ومحقه وإبادته، كما هو الحال في مناطق عديدة من العالم تنزف بدماء بشر ضعفاء، أذلاء، هم عادة مسلمين!، لا حول ولا قوة لهم، ولا جريمة ينسبونها لهم سوى أنهم يخالفونهم في المعتقد. فإنني مضطر إلى أن أتخطى ذلك الواقع المخزي، لضرورات البحث المتجرد، على أمل أن نصل إلى نتيجة، تصبح بها البشرية في مأمن من غضب الله تعالى، وفق نظرة تجمع بين الإيمان والمنطق؛ لذلك سأفترض (لوقت قصير يتجاوز الواقع) أن المختلفين سيقبل كلٌ منهم بوجود الآخر، إيمانًا منهم بحتمية ذلك، عقلا، وقدرًا.  
 
لكن السؤال الثاني، يبدو ملغمًا بالعراقيل، مملوءً بالعقبات، فالمساواة بين المختلفين، تعني واحدًا من فرضيات أربعة: 
الفرضية الأولى: هي أن يؤمن كل طرف بأن المخالف له على صواب، على الطريقة التي يروج لها أصحاب ما يسمى بوحدة الأديان، دون أن يعني ذلك أن طرفًا ما على خطأ؟!!. 
والفرضية الثانية: أن يقبل كل طرف بأن عقيدته على جانب من الخطأ في شيء، وعلى جانب أيضًا من الصواب في شيء آخر، لأن الحقيقة ليست حكرًا على أحد!!، فأنا أمتلك جزءً منها وغيري يمتلك جزءً آخر، أو ربما أجزاء، وهكذا. 

والفرضية الثالثة: أن تقوم العلاقة بين أتباع الأديان على أساس مبدأ: (تحييد الدين)، وتسيير الحياة بعيدا عن دلالات الدين، كل دين، وأي دين، مع منع ظهور أي شكل من أشكال التدين، وليبق كل ذي دين على دينه في بيته وخاصة نفسه وحسب. 
والفرضية الرابعة: هي أن تبقى الأديان سالمة من العبث، بدافع التجديد أو التطوير، ويتساوى الجميع في الحظوظ الدنيوية، والحقوق والواجبات الإنسانية، محقين كنا أو مبطلين، مع إعطاء الحق للبشرية في التعرف على طبيعة كل دين، واختيار الحق منها، وفق أدوات خالية من الضغط والتزييف، مع احتفاظ كل دين بمقوماته وأصوله. 

فأما الفرضية الأولى والثانية، فكلاهما يعد في الحقيقة تخل طوعي عن الإيمان بالعقيدة التي يعتنقها هذا الفريق أو ذاك لصالح العقائد المخالفة، في كل تعاليمها وتوجيهات، حسب الفرضية الأولى، أو في بعضها، حسب الفرضية الثانية، لأن العقيدة بمفهومها الديني ودلالتها اللغوية، ما سميت عقيدة إلا لكونها لا تقبل الشك لدى معتقدها، فالعقيدة وفق المعجم الوسيط هي: "الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده"، لذلك لا يبدو هذا الطرح متسامحًا، كما يروج له أصحابه، بقدر ما يحمل في ظاهره وباطنه دلائل الغزو الفكري، والموت الرحيم للأديان كلها، أو لبعضها، لصالح البعض الآخر منها في أحسن الظروف.  

وأما الفرضية الثالث، فهي فرضية تحتاج إلى شيء من الوقت!، ليس لوجاهتها، ولكن لأن المتحمسين لها يقولون: إن الدين سيفرق بين الناس، ويزيدهم فرقة على فرقتهم، وبه ينشأ ويدوم الصراع الذي نعرف مسبقًا أنه لا منتصر فيه، فلماذا لا نعيش في بيئة خالية من أي مظهر من مظاهر الخلاف المبني على أساس ديني؟، وليعبد كل إنسان في خاصة نفسه ما يريد!، وليعتقد في إلهه ودينه ومذهبه ما يشاء؛ ولتبق الأرض دائرة على شؤون الحياة وضرورات المعيشة وسلامة الإنسانية من الفقر والجهل والأمراض!!، ولست غافلًا أن دولًا كثيرة أوهمتنا لعقود أنها تسير على هذا المبدأ، رافعة شعار الحرية، فجالت وصالت في أوصال الأديان تقطيعًا وتحقيرا، وجالت وصالت مع الانفلات في كل ميادينه الأخلاقية، والسلوكية، حتى إذا ما وصلت بهم الحرية إلى محطة الإسلام، وبدأت الغشاوة عن أعين بعض منهم بالزوال، تنبهت تلك الدول إلى أن هذه الإفاقة ستمثل في القريب خطرًا على الحرية ذاتها، لأن الحرية لا يمكن أن تعني بأي حال اعتناق ذلك الدين!!. إنما هي الانفلات، أو اعتناق أي دين، لكن ليس الإسلام، ورغم مرارة ذلك الواقع، لتغوله بهذا الجمود في الكذب والغباء، لكنني مضطر هنا أيضًا، أن أتجاهل هذا الواقع (قليلًا من الوقت)، ولأفترض أن هذا الطرح (تحييد الأديان) لا يزال قائمًا في نقائه، لم يُجرَّب، ولم يقبض على أتباعه متلبسين بالكذب والخداع والتزييف. 

وعليه فإن هذا الفرض القائل بتحييد جميع الأديان، ينبغي أن يناقش، أولًا: من أجل الوصول إلى مكامن القوة والضعف فيه. وثانيًا: لأن سلامة الإنسانية من الفقر والجهل والأمراض، وتوفير مقومات الحياة لكل إنسان، والأمن، والمساواة، بحسب شعاراتهم، كلها مبادئ عادلة، لطالما حدَّث بها الإنسان السوي نفسه، وتاق إليها قلبه وعقله. 
لكن السؤال الملح: عند تغييب الدين من دائرة الصراع، هل يمكن تغييب غيره من الأسباب الطبيعية للصراع أيضًا، هل يمكن تحييد كل الأفكار، وتقييد كل الطموحات البشرية على المستوى الفردي والجمعي، ومن ثم إنهاء جميع الصراعات؟.

نحن نستطيع أن نُحَيِّدَ الدين فلا تنشأ أي صراعات بسببه، لكن ماذا عن الصراع على الحياة نفسها، ومقوماتها، ومكاسبها؟!!.

إن هذا التحييد للدين على أساس أنه منشأ الصراع البشري، مجرد وهم، قد لا يُدْرك مروجوه طبيعة الإنسان، الذي تتهيأ في نفسه، كل مقومات الصراع، وجميع أسبابه.

فما الدين في أسباب الصراع البشري، إلا سبب واحد من مئات أو آلاف الأسباب، التي تُدار عجلة الصراع البشري في فلكها. 
والتاريخ شاهد قوي على ذلك، فقد قامت حروب، وبسقت حضارات، وفنيت أخرى، لا على أساس التدافع الديني فقط، ولكن على أسس مادية صرفة، من أهمها: بسط النفوذ، وتوسيع الملك، وجني الثروات، والنزعات العرقية والقومية، ونحو ذلك. 

ثم إننا حين نعالج مسألة تحييد الأديان، نجد أن ذلك التحييد سيذيب مع الوقت الفوارق التي بينها، مما يعني تذويب الأديان نفسها، لتعود البشرية إلى الفرضية الأولى التي كانت تراها في وقت ما مستحيلة، فإذا بوحدة الأديان بعد تمييع العقائد وتذويبها أمرًا ميسورًا لا غضاضة فيه، وفي ذلك منتهى الظلم للبشرية الحرة، لما فيه من حرمان لها من معرفة الحق الذي أرسله الله إليها، وظلم لها  بتجهيلها عن رسالة أرسلت إليها، لها الحق في الاطلاع عليها ومعرفة ما فيها بتجرد، من غير تدخل بمكيدة أو تلفيق؛ فلذلك تحييد الأديان لا يعدو أن يكون مرحلة في سلسلة من التغول على الحرية الإنسانية، والاعتداء  على حق الإنسانية في المعرفة الحرة، ليس معرفتها بالإسلام وحده ولكن معرفتها بكل الأديان كما هي، وعلى ما هي عليه في الواقع... وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.