الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المستشار سُليمان عبدالغفار يَكْتُب: التَنْوير الحَقيقي.. التَنْوير الزائِف

صدى البلد

ظَهَرَتْ حَرَكة "التَنْوير – Enlightenment" بِمَعْنى الاسْتِنارة وطَلَب النورِ في رِحابِ العَلْم والفِكْرِ والفَنِّ إبان "عَصْر النَهْضة الأوروبِّية – Renaissance" الذي امْتَدَّ على مَدَى ثَلاثة قُرون بِدايةً مِنَ القَرْنِ الرابِعَ عَشْر إلى القَرْنِ السادِسَ عَشْر – وُصولًا إلى العَصْرِ الحَديث – ويَتِمَّ التأْريخ لِعَصْرِ النَهْضة بِسُقوطِ مَدينة "القُسْطَنْطينية" حاضِرة الدَوْلة البيزَنْطية في عام 1453م على يَدِّ السُلْطان مُحَمَّد الفاتِح – وأدَّى سُقوطِها في أيْدي العُثْمانيين إلى نُزوحِ العُلَماء إلى مُخْتَلَف المُدُنِ الإيطالية، حامِلين مَعَهُم تُراث اليونان والرومان – وهو التُراث الذي كانَ المُسْلِمون قَدْ تَرْجَموه إلى العَرَبية – ثُمَّ قامَ عُلَماءُ الغَرْب بِنَقْلِهِ مِنَ العَرَبية إلى اللاتينية ...!؟! – ويُشيرُ "عَصْرِ النَهْضة" إلى التيَّارات الثَقافية والفَنِّية التي بَدَأتْ في الأراضي الإيطالية مُنْذُ بِداياتِ القَرْنِ الرابِعَ عَشْر الميلادي وبَلَغَتْ أوج ازْدِهارِها في القَرْنين الخامِسَ عَشْر والسادِسَ عَشْر – ومِنْ ايطاليا انْتَقَلَتْ هَذِهِ التيَّارات إلى سائِر أنْحاءِ القارَّة الأوروبِّية ...!؟!.

كانَ لِحَرَكةِ التَنْويرِ هَذِهِ تأثيرها الكَبير في تَكْوين العَقْلِ الأوروبِّي الحَديث على أُسُس جَديدة تَعْتَمِد على الرؤية النَقْدية والنَظْرة العِلْمية والمَنْهَجِ التَجْريبي الذي أدَّى بِالتَّقَدُّمِ العِلْمي إلى اسْتِخْدامِ تَطْبيقاتِ العِلْم "التكْنولوچيا" في شَتَّى نَواحي الحياة – وكانَ لِتِلْك التقْنية دَوْرِها في تَقْديمِ نِتاجِ الحَضارة وانْتِشارِها في كافَّة أرْجاءِ العالَمِ عَبْرَ وَسائِل الانْتِقالِ والاتِّصالِ وغَيْرِها – بَيْنَما خَضَعَ المُسْلِمون لِلجُمود والحِصار الذي فَرَضَهُ عَلَيْهِم العُثْمانيُّون – ليَتِمَّ الاكْتِفاء بِتُراثِ عَصْرِ الجُمودِ الفِكْري المُنافي لِلْعَقْلْ – فَقَدْ ظَلَّ المُسْلِمون في حالِ التَراجُعِ والإنْغِلاقِ بَعيدين عَنْ تِلْك التَطَوُّرات التي حَدَثَتْ في أوروبَّا – إلى أنْ فوجِئَتْ مَصْر ومَعَها العالَمِ العَرَبي والإسْلامي بِالحَمْلة الفرنْسية في نِهايَةِ القَرْنِ الثامِنَ عَشْر التي فَتَحَتْ الباب واسِعًا أمام باقي الدوَلِ الأوروبِّية المُتَصارِعة على المُسْتَعْمَراتِ لِاحْتِلالِ المَنْطِقة والهَيْمَنة عَلَيْها...!؟!.

وإذا كانَتْ أمَّة الإسْلام في بِدايةِ نَشْأتِها لَمْ تَكُنْ تَعْرف القِراءة والكِتابة "أُمَّة أُمِّيَّة" – فَإنَّ آيات القُرْآنِ الكَريم أرْشَدَتْها إلى أهَميِّة طَريقِ العِلْمِ والنور – وعَنْ طَريقِ السَيْرِ الحَثيث لِامْتِلاكِ المَعْرِفة – تَمَكَّنَتْ مِنْ إقامة حَضارة لا نَظيرَ لَها بَعْدَ اسْتيعاب مُقومات الحَضاراتِ السابِقة (مَصْرية وهندية و فارسية و وصينية ويونانية ورومانية) لِتُعيدَ تَقْديمها لِلإنْسانية في رَوْنَق إيماني جَديد لَمْ تَعْرِفْ البَشَرية مِثالًا لَهُ مِنْ قَبْل – لِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُلوم وفنون وآداب تَتَواءَم مَعْ روحِ الإسْلام التي تُعْلي مِنْ شأنِ العَقْلِ والفِكْرِ والتَفَكُّر في بَديع صُنْعِ الله مُبْدِع الكَوْنْ ...!؟!... اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الحَضارة تُضئُ العالَم مِنْ حَوْلِها قُرابة خَمْسة قُرونْ – وعِنْدَما تَخلَّتْ عَنْ هَذِهِ الروحِ تَعَرَّضَتْ لِلتَحَلُّل نَتيجة الانْغِماسِ في التَرَفْ، وشيوعِ القَهْرِ والاسْتِبْدادِ وإقْصاءِ الرأي المُخالِف في ظِلِّ تَناحُر وصِراعٍ سياسي يَهْدِفُ إلى حيازَةِ السُلْطة وفَرْضِ الرأي بِالإكْراهِ والتَهْديدِ والبَطْشْ – فَحينَما تَتِمَّ مُجافاة العَقْلِ والمَنْطِق وحُرِّيةِ الفِكْرِ تَتَداعى مُقوماتِ الحَضارة – وهّكَذا تَذْوي جَذْوة النُّور وتَتَلاشى مَعَ اسْتِشْراءِ ضَلالاتِ العُنْفِ والخُرافةِ    والجَهْل ...!؟!.

في العَصْرِ الحَديث قَدَّمَ العَديد مِنَ المُفَكِّرين المُسْلمين إسْهاماتِهِم سَعْيًا إلى ظُهورِ فِكْر إسْلامي يَدْعو إلى التَجْديد لِتَقْديمِ الإسْلامِ المُسْتَنير – بَدَأ هذا التيَّار بِالطَهطاوي والأفْغاني ومُحَمَّد عَبْدُه"، ليَتِمَّ تأصيلَهُ مَنْ جانَبَ تَلاميذَهُم "العَقَّاد وطه حسين ومصطفي عبدالرازق وأحمد أمين"، ومَنْ بَعْدَهُم "مُحَمَّد عمارة وطارق البِشْري و مُحَمَّد سعيد العشماوي ومهاتير مُحَمَّد وعبدالوهاب المسيري وعِزَّت بيجوڤيتش وغَيْرهم مِنَ المُفَكِّرين" – ويَهْدِفُ هَذا الفِكْر إلى تَحقيقِ مَقاصِدِ الشَريعة الإسْلامية بِما يَتَّفِق و روحِ الإسْلام سَعْيًا إلى تَغْييرِ أوْضاعِ العالَمِ الإسْلامي والنُهوض بِالمُسْلمين ومُحاولة اسْتِرْجاعِ العَقْلِ الإسْلامي الحَقيقي بَعيدًا عَنْ أسْرِ التَشْويه والجُمود الذي لَحِقَ بِهْ – هَذِهِ الاسْتِنارة التي نَهَضَ بِها المُسْلِمون الأوائِل وكانَتْ الدافِع وَراء الإبْداعِ الحَضاري الإسْلامي والتأْكيد على النِظامِ الأخْلاقي الذي هوَ أساس المُعْتَقَد وناتِجِ الإيمان، وإعْلاء شأْنِ النِظامِ القانوني في إطارٍ مِنَ المَسْئولية الفَرْدية والجَماعية بِهَدَفِ تَحْقيقِ الحُرِّية والعَدْلِ ضَمانًا لِإنْسانيةِ الإنْسانْ – فالإسْلام لَيْسَ مُجَرَّد دين – إنَّما هو أُسْلوب حياة ونَمَط تَفْكير ... و قيَم ثَقافية وأخْلاقية راسِخة ...!؟!.

يَجِب التَذْكير بِأنَّ دُعاة "التَنْوير الزائِف" مِمَّنْ يُرَوِّجون لِثَقافةِ التَحَرُّر على النَمَطِ الغَرْبي في إطارِ سَعْيهِم المحموم ليَجْعَلوا مِنْها ثَقافة عالَمية – لابُدَّ أنْ يَقْتَصِر على المُنْتَمين إليْها فَقَطْ – بِحَيْثُ لا يَتِمّ السَماح لَهُم بِتَشْويه الثَقافات الأُخْرى حَتَّى تَتَخَلَّى عَنِ القيَمِ والأخْلاقِ والدِّينْ ...!؟!. إنَّ إدِّعاءاتِهِم بِأنَّ الثَقافة الغَرْبية المُعاصِرة هى "ثَقافة مَسيحية" إدِّعاءات تَتَّسِم بِالكَذِب والتَضْليل – فَلا عَلاقة لَها بِالدِّينِ المَسيحي أو غَيْرِهِ مِن الأدْيان – إنَّما هى ثَقافة ضِد الدين – قُوامُها إشْباع الرَغَباتِ والتَمادي في الأهْواءِ التي تُدَمِّر حياة الإنْسان ...!؟! – فَثَقافة الغَرْب لَمْ يَعُدْ فيها مَكان لِمَشاعِرِ الحُبِّ وقَدْ تَمَّ حَصْرها في الرَغَبات المَحْمومة – دونَ مَشاعِرِ الوِدِّ والمَحَبَّةِ بَيْنَ الرَجُل والمَرْأة ...!؟! – الأنْكَى مِنْ ذَلِك أنَّهُ إذا ما أرَدْنا الاعْتِماد على أيِّ دَوْر يُمْكِن لِقيَمِ هذهِ الثَقافة أنْ تَقومَ بِهِ لِوَقْفِ التَدَهْوُر الاخْلاقي، والخُروج مِنَ المأزَق الذي تواجِهه – ويواجِهَهُ مَعَها كُلّ مَنْ سَقَطَ في مَتاهَةِ التَغْريب و دأبَ على تَقْليدِ نَمَطِ الحياة الغَرْبي ...!؟! – فَلَنْ تَجِدْ قيمة أخْلاقية واحِدة يُمْكِنُها الوقوف في مواجَهةِ غَزْوِ الإباحيَّة، أو تَقْليص انْتِشار الخُمور والمُخَدَّرات وما تؤدِّي إليْهِ مِنْ جَرائِمٍ وانْحِراف ...!؟! – كَما أنَّ عُلوم حَضارة الغَرْب تَبْدو عاجِزة بِدَوْرِها عَنْ مواجَهة طوفان الأمْراض المُجْتَمَعية السائِدة، وما تُعانيهِ مِنْ حالةِ الفِصامِ التي يَعيشَها الإنْسان الغَرْبي الآنْ ...!؟!.

يوَضِّح الدُّكْتور "مَهاتير مُحَمَّد" * مُهَنْدِس التَجْرِبة الماليزية الناجِحة – "... أنَّهُ عِنْدَما لا تَعْرِف شُعوب العالَم آباءها وتُمارِس الرَذيلة والعَلاقاتِ الجِنْسية المِثْلية، وتَقْديس الظُلْم وقَهْرِ القَوى لِلضَّعيف تَحْت مُسَمَّيات "ثَقافة التَحَرُّر"!؟! – فَمِنَ المُتَوَقَّع أنْ يَكونَ جَزاء البَشَرية هُبوب رياح "غَضَب الله" على العالَم ...!؟! – ألَيْسَ هذا هو ما نَراهُ في أيَّامِنا هَذِهِ مِنْ نازِلَة "وَباء كورونا" التي تَضْرِب العالَم الآن ...!؟! – ويُحَذِّر الدُّكْتور مَهاتير مِنَ الإنْزِلاق وَراء دَعاوَى "التَنوْير الزائِف" تَحْت شِعار "تَكامُل العالَم" في ظِلِّ هَيْمَنة الثَقافة الغَرْبية المُدَمِّرة حَتَّى لا يَضيع ما تَبَقَّى لِلمُسْلمين مِنْ قيَمٍ أخْلاقية واجِبهُم الحِفاظ عَلَيْها والإعْلاء مِنْ شأْنِها بِاعْتِبارِها حائِطِ الدِّفاع الأخير في مواجَهة شَراسَة حَمَلات فَرْضِ التَبَعيَّة ومَظاهِر التَغْريبْ ...!؟!... أمَّا عَنْ حَقيقةِ "التَنْوير الزائِف" فَإنَّ المُفَكِّر الاقْتِصادي الراحِل "الدُّكْتور جَلال أمين" ** يَرى أنَّ الدَعْوة لِلتَنْويرِ الذي يؤدِّي إلى مسْخ شَخْصية الأُمَّة والعَبَث بِتُراثِها – والتَضْحية بِلا مُقابِل بِأغْلى مافيها وبِكُلِّ ما تَتَّسِم بِهِ عَنْ غَيْرِها دونَ تَمْييز بَيْنَ النافِعِ والضَّار – وإفْقادِها القُدْرة على الإبْتِكارِ الحَقيقي هو "تَنْويرٌ زائِفٌ" لأنَّ "التَنْوير الحَقيقي" يؤدِّي إلى "نَهْضة حَقيقية" تَرْفَع مِنْ شأْنِ الأُمَّة وتُحافِظُ على كَيانِها ...!؟!.

... إنَّ رِسالة "التَنْوير الحَقيقي" مِنْ وِجهَة نَظَرِنا – لا تَعْدو عَنْ كَوْنِها دَعْوة إلى تأْكيدِ "الذاتِ الثَقافيةِ المُسْتَقِلَّة" لِإحْياءِ القيَمِ النَبيلةِ التي عَرَفَتْها حَضارتنا الإسْلامية في عُصورِ ازْدِهارِها التي سادَتْ فيها العَدالة وحُرِّيَةِ الرأي وإبْداعات العَمَل والعِلْم – ولَيْسَ عُصور التَدَهْور والانْهيار وماغَلَبَ عَلَيْها مِنِ اسْتِبْداد وشيوعِ الخُرافةِ والجَهْل – وقَدْ تَوارَتْ عَنْ حَياتِنا بِفِعْلِ الإدِّعاءِ الزائِفِ لِلتَنْويرِ مِنْ جانِب "الاتِّجاهَيْنِ المُتَصارِعين" في ثَقافَتِنا المُعاصِرة ...!؟! – إتِّجاه الجُمود والتَقْليد ورَفْضِ التَجْديد ...!! – والاتِّجاه الآخَر الغارِق في التَبَعية لِلثَقافة الغَرْبية ومَتاهَةِ التَغْريب ...!؟! – ... وكِلاهُما بَعيدٌ كُلّ البُعْد عَنِ النُّورِ وحَقيقةِ التَنْوير ...!؟!.