الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في ذكرى الهجرة.. حسن إسميك: أنا مواطن من هذا العالم

الكاتب والمفكر حسن
الكاتب والمفكر حسن إسميك

تسأل الكاتب والمفكر حسن إسميك، عن معنى مفهوم الهجرة، وعن دلالة الهجرة التي رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهميتها المركزية في قيام الإسلام وانتشاره، وعن القيم التي تضمنتها، ومن أجلها قرر الفاروق بدء التأريخ الإسلامي بها، وذلك في ذكرى هجرة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

وأشار حسن إسميك، إلى أن لكل تقويم عيده واحتفالات برأس سنته، واحتفالات رأس السنة الميلادية، كانت تخص الأخوة المسيحيين فيما سبق، لكنها أصبحت احتفالات عامة لكل سكان الكرة الأرضية منذ أن أصبح التقويم الميلادي هو الرسمي متجاوزاً بعده الديني. 

وهناك أيضاً التقويم العبري الذي لا نكاد نفطن كثيراً له عند الأخوة اليهود، ونكاد لا نعرف كم بلغت السنة العبرية، وفي أي شهر يكون رأسها، ولدينا التقويم الهجري الذي تتجاوز قيمته الروحية في وعينا قيمته الرسمية، بينما دلالته (الهجرة) ما زالت ماثلة تلازم أبناءنا الذين لم يجد أغلبهم الأمل من بعد رحيل رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يومنا هذا.

ولفت حسن إسميك، إلى أنه عند الحديث عن الهجرة، يعني تركك لبيتك وبلدك، بنية الرجوع أو البقاء، رغم الحنين أو بدونه، وعن "قتل" جزء من حياتك من أجل ولادة حياة جديدة ما كان لك من سبيل لإيجادها في موطنك.

مضيفا: لا نبالغ إذا قلنا إنَّ الهجرة باتت اليوم تساهم كثيراً في رسم صورة العالم، ولولاها لعشنا في عالم آخر تماماً، إذ يقدم المهاجرون في عصرنا هذا ذروة مساهماتهم العالمية في شتى المجالات، ولئن فردت الهجرة أغصانها وأوراقها على عالمنا المعاصر ليشهد أوضح تجلياتها، إلا أنها ليست وليدة الحداثة أو ما بعدها، بل هي قديمة قدم التاريخ نفسه، ولدت معه في ذات اليوم، وكانت محور قصصه ولبها، الأسطورية منها أم الواقعية، الدينية أم المدنية.

وذكر حسن إسميك، أنه لسوء الحظ، لم يتم تناول هجرة النبي(ص) وصحابته من مكة إلى المدينة كثيراً بمعزل عن خلفيتها الدينية، رغم ما لهذه التجربة من أهمية، وإذ نتطرق هنا لتبيان فلسفة الهجرة في بعدها العملي لاستلهام دلالاتها في سلوكنا وحياتنا المعاصرة، فإننا نهدف بذلك إلى تبيان تجربةِ هجرةٍ هي الأنجح عبر التاريخ، حتى يكاد يجوز وصفها بـــ "الهجرة الكاملة"، فما الذي يدفع إنساناً –كائناً من كان– إلى ترك بلاده والبحث عن أخرى، سوى أن موطنه الأول لم يشكل تربة يزرع فيها ما يريد أن يحصده.

وهذا بالضبط ما حدث مع النبيّ الكريم، إذ لم تلق دعوته أرضاً خصبة بين أبناء قومه، ولم تعد عليه وعلى صحبه إلا بالضرر والاضطهاد، فوجد نفسه أمام خيار وحيد وهو إيجاد تربة بديلة، وبهذا يعطي مثالُ نبينا الكريم وصفاً نموذجياً لحالة المهاجر التقليدي، الذي يفقد كل أمل في البقاء والإنتاج في نفس المكان، فيلتفت إلى البعيد المجهول فعلياً، لكن هذا المجهول يحمل في طياته على الأقل احتمالاً للنجاح، احتمال الفشل قائم عند الانتقال لكنه أكيد في حال البقاء.

ولو أراد الله سبحانه أن يرفع كأس الهجرة المرّة عن نبيه لفعل، فهو على كل شيء قدير، لكن لا بد أن من وراء ذلك حكمة، لن ندركها كلها بالطبع، لكننا صرنا نعرف أن السعي وراء النجاح "سنة" علينا أن نتمثل فيها نبي الله، حتى لو اقتضى ذلك تركنا لأرضنا والانتقال إلى بلاد جديدة.

وأوضح أن المهاجر يحمل معه في الغالب شيئاً من موطنه، حتى لو تقطعت خيوط الارتباط بسكين اليأس، وحتى لو شكلت لغته ونسبه وقوميته عبئاً يرزح تحته ووسماً يوصف فيه. في حالة الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان موضوع القومية والنسب أقل وطأة بسبب عموم دعوته لكل البشر دون تمييز، إذ "لا فضل لعربيّ على عجميّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".

وبذلك ألغت الفوارق بين جميع المنتسبين إليها ولا سيما بين المهاجرين وأبناء المدينة. هذا أحد الأسباب التي تجيز وصف الهجرة النبوية بالهجرة الكاملة، يضاف إليه النتائج التي أفرزتها، فقد أعطت حالة من الاستقرار لأتباع الدين الجديد مكّنتهم من إنجاح مشروعهم الذي انتقل بها من حالة الدعوة إلى حالة بناء دولة ذات مؤسسات وأسس قوية، توسعت فيما بعد لتصبح إمبراطورية سطرت جزءاً لا يمكن محوه ولا يمكن تجاهل تأثيره في رسم صورة عالمنا الذي نعيشه اليوم.

وشدد على أن هناك أسباب أخرى للهجرة، تتجلى وقد لا يكون الاضطهاد المباشر أحدها، إنما أن يصبح المكان الذي يقطنه المرء غير صالح للحياة، لعدم توافر أبسط الشروط كالأمن الشخصي والغذائي، وتوافر متطلبات العيش البسيطة من أدوية وبنى تحتية وخدمات لا يمكن الاستمرار دونها مثل الكهرباء والماء.

وهذا ما يحدث في الدول والمناطق التي ما زالت تحت وطأة الصراعات الدائرة منذ سنين طويلة، في سوريا مثلاً والتي أصبحت بسبب الحرب الدائرة منذ عشر سنوات فيها، ثم الحصار العالمي الذي تزامن معها، بلداً بدون تيار كهربائي بشبكة مواصلات متردية ودخل فرد شحيح يجعل أغلبية الشعب السوري ترزح تحت خط الفقر، ما يعني أنهم جميعاً مشاريع مهاجرين.

أضاف: وبينما يشكل المهاجرون أكبر مخاوف الدول الأوروبية اليوم، فإنهم من جانب آخر يكتبون بعض الصفحات المضيئة في كثير من المجالات العلمية والرياضية والفكرية، وفي هذا برهان واضح على أن الإنسان يستطيع تسخير طاقاته في خدمة المجتمع الذي يحتضنه، ما يعيد إلى الأذهان "الكوزموبوليتانية" أو فكرة المواطن العالمي التي ابتكرها "الكلبيّون" في القرن الخامس قبل الميلاد.

حيث أجاب ديوجانس الكلبي عندما سئل من أين أتى: "أنا مواطن من هذا العالم"، ليطور أتباعه الفكرة فيما بعد ويركزون على أن كل إنسان يسكن في مجتمعين، المجتمع الذي ولد فيه ومجتمع الطموح الإنساني، وبذلك يكون لكل إنسان الحق في ترك مكان ميلاده والاتجاه إلى حيث يحقق ذاته التي لا تتوافر في موطنه الأصلي شروط تحقيقها.