الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العقل الجمعي وظاهرة القطيع: ابن رشد ورينيه ديكارت

العقل الجمعي (أو ما يعرف بالأثر الاجتماعي المعلوماتي أيضاً) هو ظاهرة نفسية تفترض فيها الجماهير أن تصرفات الجماعة في حالة معينة تعكس سلوكاً صحيحاً. 
وهذا شبيه، عزيزي القارئ، في تلك الإجابات التي يمكن أن تجدها جاهزة عند الغالبية العظمى من البشر عن أية سؤال يتم طرحه أو أية قضية عامة، والتي تتلخص في حكمة ما أو مَثَلٍ يجري، هذه الحكم أو الأمثال التي نعلم أنها تكون نتيجة خبرات متراكمة لأجيال سابقة، ويكون قد تم اختبارها وأعطت نتائج في الغالب الأعم صحيحة، ولكن هذا ليس المقصود بالعقل الجمعي، والذي يتجلى تأثيره في الحالات التي تسبب غموضاً اجتماعياً، وتفقد الجماهير قدرتها على تحديد السلوك المناسب، وبدافع افتراض أن الآخرين يعرفون أكثر منهم عن تلك الحالة. هذا الذي يعني أن التجربة الفردية في مثل هذه الحالات هي من الأهمية بمكان، حيث أن ذلك يعني بالضرورة إطلاق العنان للعقل ليفكر، ويطرق كل السبل دونما خوف أو رعب، هذا الذي تفرضه ضرورة الانصياع للقيم السائدة وما يؤمن به الغالبية الساحقة من جماهير المجتمع. حيث أن سطوة أثر الجماعة تدفع الفرد إلى الانصياع إلى قرارات معينة بغض النظر عن صوابها من خطئها هذا ما يطلق عليه بظاهرة "القطيع". وعلى الرغم من أن ظاهرة العقل الجمعي قد تعكس دافعاً منطقياً بالنسبة للبعض، إلا أن التحليل يظهر أن سلوك القطيع قد يدفع الجماعة إلى الانحياز سريعاً إلى أحد الآراء، ولذلك قد تنحصر آراء الجماعات الكبيرة في دائرة ضيقة من المعلومات.

إن الانصياع والإذعان لظاهرة العقل الجمعي، تفقد الإنسان القدرة على التفكير بعمق في القضية المعروضة أو الموقف الذي يتعرض له، هذا الذي يجعله يعجز عن الوصول إلى طريق التفكير الموضوعي إلى حل ذاتي ومن ثم يسير مع القطيع ويتخلى بذلك عن أهم ما ميزه به الله سبحانه وتعالى وهو العقل، حيث أنه يسمح لغيره بأن يفكر نيابة عنه، وينتظر من الآخرين بأن يحلوا له مشكلته أو قضيته، إنه تعطيل تام للعقل الفردي، الذي هو المنوط به وحسب أن يسيّر حياة الفرد.
إن الفرد حينما يفقد قدرته، بعد أن يسلم عقله لغيره، على اتخاذ موقف من أمر معين، فإنه بالبديهة يلجأ إلى هذا الغير بحثاً عن مؤشرات وعن القرار الصحيح والموقف المناسب، وهو هنا يقع فريسة سهلة لهذا الغير الذي يسيطر عليه سيطرة كاملة، ويدفعه دفعا إلى ما يريد وليس ما يريد الشخص ذاته.

وما ذلك إلا لأن هذا الشخص فقد إيمانه بنفسه، وإيمانه بقدراته العقلية - هذا العقل الذي أعتبره الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت أنه مُقَسَّمٌ قسمة متساوية بين جميع البشر وأن الفرق الوحيد بين الجميع هو في آلية عمل هذا العقل أو ما أطلق عليه منهج عمل هذا العقل هذا الذي دفع أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت من تأليف مصنفه في المنهج - "المقال عن المنهج" هو مقال السيرة الذاتية الفلسفية، قام بنشره رينيه ديكارت في 1637. اسمه الكامل هو مقالٌ عن المنهج المتبع لحسن قيادة عقل المرء والبحث عن الحقيقة في العلوم.
إن تفاوت تعامل الشعوب مع أزمة من الأزمات أو اختلاف التعاطي مع قضية من القضايا أو نظرة المجتمعات للمستقبل أو معالجتهم للتاريخ، إنما يصدر عن عقلية جمعية تصبغ هذا المجتمع أو ذاك بلون ذلك العقل الجمعي لهذه الأمة أو تلك، ذلك الذي يجعلنا ننظر بعين فاحصة لحال مجتمعنا، لنسبر من خلال هذا الفحص أدوار العقلية الجمعية المسيطرة على مجتمعنا، تلك العقلية الجمعية التي يرى "دوركايم  David Émile Durkheim" في نظريته أنها هي ما تصبغ أفراد المجتمع بخصائصها، حيث أنها ليست مجموع عقول أفراد المجتمع، بل هي سابقة عن الفرد الذي هو ما بين أمرين: إما أن يتماهى مع تلك العقلية الجمعية ومن ثم يصبح عضوا مقبولا في هذا المجتمع وإما أن يتسق مع ذاته، في حال رفضه لما هو سائد في المجتمع، وهنا يصطدم اصطداما بالمجتمع فيخرج عليه ليصبح منبوذا من مجتمعه، مطرودا من جماعته. ذلك الذي يجعل هؤلاء الرافضين للعقلية السائدة في مجتمع ما بين كفي الرحى: فإما يرضون هذا المجتمع وإما يرضون ذواتهم، وهنا على المصلحين والمجددين أن ينحازوا لقناعاتهم حتى ولو اصطدموا بالمجتمع ذلك الذي اختاره كبار المفكرين، مهما نالهم من أذى ولعل فيما لاقاه ابن رشد أحد أهم الفلاسفة المسلمين بل أحد أهم الفلاسفة في كل التاريخ مثلا ونموذجا.

فالرجل لم يرض أن يخضع للعقل الجمعي المسيطر على مجتمعه وخاض في سبيل ذلك حربا ضروسا مع الفقهاء أو أصحاب الفكر السلفي في العموم هؤلاء الذين يسيطرون على عقول العوام الذين هم أهم سلاح في أية معركة وأعظم حامٍ لهؤلاء المسيطرين عليهم فيتمترسون خلفهم ويلقون بأفكارهم وآرائهم فإذا هي المسيطرة على المجتمع. 
ومن هنا تصبح مهمة المفكر أو الفيلسوف غاية في الصعوبة، ويصبح مجرد مناقشة الأفكار التي تلبّست عقول وأرواح العامة لهو ضرب من المغامرة غير محسوبة العواقب، فهل كان يتخيل كائن من كان أن يُنْفَى القاضي والفقيه والفيلسوف ابن رشد في حارة لليهود في بلاد المغرب بعد أن غضب عليه الحاكم، بعدما رفض ما أذاعه رجال الدين، فيما شاع من أن ريح عاتية سوف تهب فتصبح البلاد كالعصف المأكول، ذلك الذي رفضه ابن رشد، وذكر أنه لو حدث وجاءت هذه العاصفة ستكون كغيرها من الرياح الشديدة ولن يكون لها هذا الأثر، فأصر محاوروه على أن آثارها ستكون مثل تلك التي وقعت لعاد وثمود فأنكر عليهم ذلك، هذا الإنكار الذي اعتبر طعنا في القرآن والإسلام جميعا، إضافة إلى جملة في إحدى كتبه ذكر فيها أنه وجد الظرافة عند ملك البربر، وهو يقصد الخليفة المنصور، وهو وصف استغله خصومه ليشوا به عند الخليفة المنصور "أبو يوسف يعقوب الموحدي"، الذي استفسر منه عن ذلك، فأكّد له أنه لم يكتب كلمة "البربر"، بل كتب "البرّيْن"، وأن هناك خطأ في الكتابة، كما نقول في عصرنا اليوم "خطأ مطبعي"، ذلك الذي لم يقتنع به الخليفة، بالإضافة إلى علاقة ابن رشد الشخصية بأبي يحيى، شقيق المنصور والطامح إلى الإطاحة به، والذي سيقطع المنصور رأسه بتهمة "مصاحبته الفلاسفة وإضمار الكفر والضلالة".

إن فيلسوفنا العربي الكبير سار ضد التيار، وواجه ظاهرة القطيع، ورفض ما يمكن أن يُرى فيه أنه من المسلمات، لأن ابن رشد رفض إهمال العقل، ليس ذلك فحسب بل طالب بأن يخضع كل شيء للعقل، وأن يؤول ما لا يتفق مع العقل من النقل حتى يتناسب معه، فالرجل يؤمن أنه من المستحيل أن يتعارض النقل الذي هو من الله مع العقل الذي هو أيضا من الله، إعمال العقل الذي يرعب المنغلقين الذين يسيطرون على الناس بعد أن يسلبوهم أعز ما يمتلكون وهو العقل، كان السبب في تلك المحنة التي تعرض لها ابن رشد الذي احتفت بما كتب القارة الأوروبية، فكونت المدرسة الرشدية اللاتينية، فتخلصت من عقل العصور الوسطى الأسطوري بعدما تحصلت على عقول فذة نفضت التراب المُهال على العقل الإنساني، فإذا بهذا العقل الآن في سموات العلم يحلق.

وإن كان هذا دور ابن رشد في أوروبا فإنه على الجانب الآخر من المتوسط كان للعرب والمسلمين رأي آخر في أبي الوليد ابن رشد، فجريمته في المطالبة بإعمال العقل دفعت الخليفة المنصور إلى أن ينفيه في قرية "أليسانة" التي كان أغلب سكانها من اليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، وهَدَّد مَنْ يُخَالِف أمره بالعقوبة 
وأبقى الخليفة فقط على كتبه العلمية حيث كان طبيبا بارعا وله في الطب مصنفات قيمة كما اشتغل مجالات:  الفلك، والجغرافيا، والرياضيات، والفيزياء، العلوم الإسلامية، وعلم الكلام. وله أيضا بها مؤلفات معتبرة.
يذهب بعض الباحثين، الذين أميل إليهم، أن العقل العربي في عمومه قد تشكّل واستقر على هذا الشكل بل تجمد منذ هذه اللحظة التي تم إحراق كتب ابن رشد فيها وتم إهانته، التي هي إهانة  للعقل، وهي نفس اللحظة التي أعلت فيها أوروبا من قيمة العقل حينما عبرت إليها كتب ابن رشد واعتنت بها العناية الفائقة اللائقة بها فتأثرت به العقول الفذة من الأوربيين بعدما اتخذت أوروبا من المنهج الرشدي، كما ذكرنا سابقا، الذي هو يُعْمِل العقل إعمالا ويحترم الفكر احتراما، منهجا لها، فإذا بنهضة فكرية وعقلية تبعث في أوروبا فتبعثُها من ركود مميت وسبات عميق، ممهدة الطريق لعصر النهضة ومن بعده عصر الأنوار لتقدَّر الحياة العقلية والعلمية والإنسانية في أوروبا وما كان ذلك ليحدث لولا الحرية التي انتزعها المفكرون والأدباء والفلاسفة انتزاعا من براثن المؤسسات القديمة.

إن إحداث حلحلة يسيرة للعقل الجمعي في أمة من الأمم يحتاج وقت طويل يبذل خلاله جهد كبير من أصحاب الفكر والرؤى، فالتأثير في المجتمع شيء والتأثير في العقل الجمعي شيء آخر، فربما تنتشر ظاهرة في المجتمع ولكنها ما تلبث أن تنتهي أما أن يتم تشكيل العقل الجمعي فهذا من الصعوبة بمكان، فكما قلنا آنفا، إن العقل الجمعي هو المشكل للعقل الفردي، ذلك الذي يعكس صعوبة أن يقوم الفرد بالتأثير في العقل الجمعي، خاصة وأنه سيسير عكس التيار ذلك الذي يجعله منزويا منبوذا من الغالبية الساحقة من المجتمع هذا الذي يعكس مدى صعوبة ان يتقبل المجتمعُ الجديدَ من الأفكار والمختلف من الرؤى والمغاير من التصورات، هذا الذي بدوره في حاجة إلى مفكرين يؤمنون بدورهم إيمان الأنبياء برسالتهم.

 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط