الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المومس الفاضلة

نهال علام
نهال علام

وكالعادة.. قامت الدنيا وربنا ما يقطع عن حياتنا عادة ، كلمة أصبحت جملة؛ أضحت حكاية فأمست رواية، وإن لم تتعدَ الفصل الواحد !

ولكن أليست ثانية قادرة على تغيير حال الدنيا؟  فلمَ نتعجب من قدرة لوحة كانت كفيلة ليشعر البعض بدوخة ! فما بالك بلوحتين يُحكى فيهما النقيض من عالمين!

إنها المومس الفاضلة، رواية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر والتي تدور في فصل واحد ولوحتين مسرحيتين، واللوحة المسرحية هي تكوين المشهد من ممثلين و إضاءة وأزياء وأحداث وكل ما تكشف عنه الستار، التي كشفت عوارا أخلاقيا  وتمييزا عنصريا وفسادا مجتمعيا وتضادا قد يبدو غير منطقي !

ليزي المومس الأمريكية، رأت رجلا أبيض يقتل ملوناً، وهي تري في عمل القاتل جريمة، ولكن أحد زبائنها الذى تربطه علاقة بالقاتل يطلب منها أن تشهد أن جريمة القتل وقعت حين حاول القتيل اغتصابها، للدفاع عنها، وعندما ترفض يهددها البوليس بالقاء القبض عليها بتهمة البغاء.

وتتكرر الجريمة على مرأى ومسمع ليزي والقاتل الثاني هو قريب القاتل الأول والقتيل ملون أيضاً ومسرح الجريمة منزلها؛  فتثور وتهدد بفضح المستور فيهدئ من روعها ويعدها بمنزل وأرض وعندما تبتلع الطعم تصبح هي المتهمة بالقتل وتدنيس العرض.

انتهت الحكاية ولكن كل يوم في الحياة يسطر مثلها أو ربما جزء منها، فالقتلة يمرحون بطلاقة والخونة يمزحون بسماجة، والساقطات يمارسن ما يمتهن بصفاقة ووحده من يطلق الأحكام من يتصف بالسذاجة.

يا عزيزي كلنا خطاؤون ورثنا الخطيئة واعتدنا الأفعال الدنيئة، ولكن لا نرى إلا عيوبا من أمامنا طالما لا يتضمن ذلك انعكاس المرآة! فلا نرى أنفسنا إلا كهنة ونحن حفنة من الجهلة. فالجهل ليس بالمراتب التعليمية ولا بالمكانة الاجتماعية إنما هو بالسماحة النفسية، التي تجعلنا نتقبل الآخر على علته، نتسامح مع نقصانه بلا ضغينة، نتقبل متناقضاته دون استعلاء، نتجاوز عن ضعفه ونحن رحماء.

القاتل والسارق والفاسق والكاذب بشر، نفس ألهمها ربها فجورها وتقواها ،ربما هي نفس ضعيفة تمكن منها مد الرذيلة ولكن الجذر يكشف نواحي تلك الروح الذليلة، وينحصر عن بعض قيمها الفضيلة. فالحياة لا تعرف المُطلق ، فلا وجود للخير والشر المُطلقين، بوتقة الروح تنصهر فيها كل المعاني، لذا فقد تجد عند أعنف القتلة بعض رحمة ولدى أبغض السارقين بقايا ضمير وعند أصحاب الخطيئة قلوب مغلفة بالفضيلة ، كل المتناقضات في تلك الأرض مقبولة فكيف لا نقبلها نحن أبناء تلك الأرض !

ألا يحمل اليوم الليل والنهار والفرح والترح والأمطار والحر ، فإذا لم نؤمن بالتناقض البشري إذاً فنحن نشكك في التناقض الكوني!

في ستينيات القرن الماضي مرت المسرحية عندما قدمت على خشبة المسرح المصري دون اعتراض على مضمونها ولا إعراض عن اسمها، مرت بسلام يشبه السلام النفسي والأخلاقي للمصريين في ذات الوقت ،مصر كانت تتمتع بحرية فكرية عائدة للتيارات الأوروبية التي كان لا يزال الوطن متأثراً بها سواء بسبب الاحتلال الأجنبي والبعثات الأوروبية للخارج ووجود الجاليات المختلفة في الداخل ، وسيطرة الوسطية على المنابر الدينية الثلاثة .

فالتدين لا يعبر عن الدين، التدين صناعة مدخلاتها ثقافة وعادات وتقاليد وأهواء نفسية تتشكل في قالب ديني يضفي عليها مظهراً مهيباً ويحمي جوهراً هشاً، فالدين هو النور الذي يحطم مقاليد الروح العنيدة ويزيح مزاليج القلب الصلدة ويفتح أبواب العقل الصلبة، ملكوت  خلقه الله ليس فقط لندور به ولكن ليدور فينا، وإلا ما سبب وجودنا على الأرض إن لم نمتزج بها وتذوب بنا!

فالله لا يغير  ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فكيف ستهب رياح التنوير على قوم استوطنوا الظلام وبنوا جداراً عقلياً حصيناً  ليسد منافذ التغيير ويمنع هواء التجديد.

الجدل الصاخب والاعتراض الساخط على اسم المسرحية يؤرق مضاجع الحيرة بسؤال بسيط، لماذا كل هذا الفزع ؟ المومس لفظ عربي صميم في المعجم اللُغوي وهي تعنى: الْمَرْأَةٌ الَّتِي تَتَعَاطَى الفُجُورَ جِهَارا، لا أرى وجه للاختلاف بين تلك الصفة وصفات أخرى كثيرة ، فالادمان والارهاب والقتل والفساد والخيانة والكذب أليست من الفجور عزيزي المعترض صاحب الفكر الجهور؟

وجدت منشورا على موقع التغريدات يذكر الحكاية الهزلية التى وردت  على لسان محمد صبحي في مسرحية سكة السلامة؛ وهو موقف تمثيلي ساخر يحكي عن رواية اسمها "خذني إلى الفندق عارية يا حبيبي " وعندما احتجت الرقابة تم تغيير الاسم إلى " خذني إلى الفندق شبه عارية يا حبيبي"  وقد كان، فاليوم تحققت رؤية الكاتب الهزلية ، اسم المسرحية قد تغير ليصبح العاهرة الفاضلة بناء على طلب اللامتنورين! يا مثبت العقل يا رب !

في أثناء أحد اللقاءات الصحفية بسيدة المسرح العربي سميحة أيوب بطلة مسرحية المومس الفاضلة في نسختها الستينية ذكرت أن “دكتور جامعي” طالب في خمسينيات القرن بمنع عرض مسلسلها الإذاعي سمارة، وذلك لأن الطلبة شديدو التعلق به مما أثر على نسب الحضور ليتسنى لهم متابعة العمل! وفي هذا اشارة لدور الفن الوثيق في شخصية المصريين الوسطية في هذا الزمن.

لذا أدعوكم لتدبر الأمر، افتحوا شبابيك الفكر على مصارعها ، ليس هناك أفضل من قوة الحروف والكلمات المسموعة والمرئية، فهذا ما يصنع الوعي الذي غاب في خضم الجدل العقيم والتدين القشري ،ولتطمئن القلوب الفزعة من الاختلاف فسواء كانت مومس أو عاهرة أو ساقطة يظل الفجور الأعظم الفجور المتدثر  بعباءة الدين النقية والملتحف بقيم مجتمع كانت يوماً قبل أفكاركم سوية!