الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

موجات اللاجئين وتطور الحرب الهجينة

د. سالم الكتبي
د. سالم الكتبي

حروب الجيلين الرابع والخامس تتسم بشكل عام بزوال الخطوط الفاصلة بين ما هو عسكري وما هو مدني، وبين ممارسة السياسة والفعل العسكري، بمعنى أن الأجيال الجديدة من الحروب يتم فيها توظيف أدوات جديدة مثل الاعلام والسياسة أكثر من الدبابات والصواريخ والمقاتلات والقطع البحرية، وهذه النوعية من الحروب لا ترتبط بالتنظيمات العابرة للجغرافيا والسيادة الوطنية كما يعتقد البعض، فهي فكرة قائمة على مواجهة الآخر من خلال أدوات دعائية وخلط للأوراق وبناء مساحات شاسعة من الالتباسات المفاهيمية والثقافية في عقل الشعوب المستهدفة.

مصطلح الجيل الرابع من الحروب ظهر للمرة الأولى في النقاشات البحثية داخل الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980، ثم ذاع صيته بعد مقال نشره بعض ضباط الجيش الأمريكي بعنوان: "الوجه المتغير للحرب: إلى الجيل الرابع"، وفي عام 2006 صدر كتاب "الحبال والصخرة" للكولونيل المتقاعد توماس هامز، وهو الكتاب الذي تكلم عن (حروب الجيل الرابع)، وأوضح أن حركات التمرد والاحتجاجات الشعبية قادرة على هزيمة الدولة من الداخل، حيث يمكنها ضرب الشبكة السياسية الاقتصادية الاجتماعية العسكرية للدولة، ومهاجمة عقول صانعي القرار وهزيمة إرادتهم السياسية. 

تطورت حروب الجيل الرابع من حركة "أوتبور" الصربية التي استخدمت اللاعنف كأسلوب ومنهج حرب، وتم تمويلها بما يتجاوز خمسة ملايين دولار من خلال ثلاث مؤسسات أمريكية مانحة، وهي المعهد الوطني الديمقراطي، والمعهد الجمهوري الدولي، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID إلى استخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة مثل وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية في اثارة الفوضى والاضطرابات في إطار ماعرف إعلامياً باسم "الربيع العربي" عام 2011. 

وقد ارتبطت حروب الجيل الرابع في البداية بالصراع ضد التنظيمات والجماعات،  ولكن مع تطور الوقت استخدمتها الدول في ساحات الصراع مع الدول الأخرى، كما تطورت أيضاً من حيث الأنماط والادوات المستخدمة ولكنها احتفظت بسماتها الأساسية مثل محورية دور الأفكار والأيديولوجيات، فالتخطيط لهذه الحروب، كان ولا يزال يتمركز تخطيطياً حول الهجوم على ثقافة الخصوم الاستراتيجيين والتشكيك فيها أو تدمير ركائزها.

في ضوء ما سبق هل هناك علاقة بين حروب الجيل الرابع أو الحرب الهجينة كما يسميها البعض، وما يحدث على الحدود البيلاروسية ـ الأوروبية؟ ما دفعني للتساؤل هو  استخدام اللاجئين كورقة ضغط وأداة صراع استراتيجي بين الجانبين، والهدف هنا يتعلق ـ كما يرى الجانب الأوروبي ـ بتشويه سمعة أوروبا والطعن في مكانتها القيمية، باعتبارها مدافعا رئيسيا عن الأطر القيمية والأخلاقية عالمياً.

والرابط أيضاً بين ما يحدث على الحدود البيلاروسية ـ الأوروبية هو إشارة رئيس وزراء بولندا ماتيوس مورافيتسكي إلى "نوع جديد من الحروب يستخدم فيه الناس كدروع بشرية" وقال إنها المرة الأولى منذ ثلاثين عاماً التي يتعرض خلالها أمن الحدود البولندية لـ هجوم شرس"، بينما يصف أعضاء أوروبيون ما يحدث على حدود بولنداً بأنه "حرب هجينة" يشنها الرئيس لوكاشينكو انتقامًا من عقوبات بروكسيل السابقة بسبب حملة نظامه القمعية ضد المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، وفق ما ذكر موقع «بوليتيكو» الأمريكي.

القصة بدأت بوجود نحو ألفين من المهاجرين الذين تقطعت بهم السبل على طول الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، حيث ثارت تساؤلات مهمة حول كيفية وصول هؤلاء المهاجرين من خارج أوروبا إلى بيلا روسيا؟ فالبلدان التي قدم منها هؤلاء هي العراق وسوريا وأفغانستان وتركيا وإيران، وهي بالفعل نقاط ساخنة لتصدير طالبي الهجرة واللاجئين، وقد أظهر تحقيق صحفي نشرته شبكة "بي بي سي" أن شبكات من المهربين تقف وراء تنظيم رحلات جوية وتوفر تاشيرات دخول إلى بيلا روسيا، ولكن هناك اتهامات بأن سلطات بيلا روسيا تسهل الرحلات الجوية إليها من أجل خلق أزمة على طول الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، ووصل الأمر ببولندا إلى اتهام روسيا وبيلا روسيا بمحاولة زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي، لكن بيلا روسيا تنفى هذه الاتهامات. 

بولندا اعتبرت رسمياً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقف وراء أزمة المهاجرين على حدودها، وأن رئيس بيلا روسيا يدير الأزمة لمصلحة الكرملين لكن العقل المدبر في موسكو.  المعروف أن الأمر لا يخص بولندا فقط ولكن هناك أيضاً حدود ليتوانيا ولاتفيا عضوي الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو).

في كل الأحوال، يتفق المراقبون على أن المهاجرين يستخدمون كبيادق أو أدوات في لعبة سياسية بين حلفاء روسيا والاتحاد الأوروبي، والأمر بات خطيراً لدرجة أن ليتوانيا قد حركت قواتها استعداداً لتدفق محتمل للاجئين وأعلنت حكومتها حالة الطوارئ تحسباً لأي تطورات.

والواضح أن أكثر ما تخشاه أوروبا في هذه الظروف هو دخول عناصر ارهابية إليها وسط موجات كبيرة من اللاجئين أو المهاجرين، وهو ما تحدث عنه نائب وزير الداخلية الليتواني كستوتيس لانسينكاس حين قال إن أكثر من 20 مهاجراً من الذين اعتقلوا في ليتوانيا بعد دخولهم بطريقة غير شرعية، يشتبه بارتباطهم بتنظيمات ارهابية، ورغم التشكيك في صدقية هذه الاتهامات من جانب بعض التقارير الاعلامية، فإن الواقع يؤكد أن هناك درجة عالية من المخاطرة في ظل عدم امتلاك معظم هؤلاء أوراق ثبوتية وهويات رسمية، فضلاً عن خطورة فتح الحدود أمام التدفقات البشرية الكبيرة من اللاجئين واحتمالية اندساس عناصر ارهابية بينهم.

الشواهد تؤكد أن موقف دول الاتحاد الأوروبي في أزمة المهاجرين يبدو ضعيفاً ليس فقط لأن التصدي لهم يستهدف إظهار الاتحاد الأوروبي بشكل اخلاقي سيئ عالمياً، لكن هناك أيضاً تهديد الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو بوقف خط امدادات الغاز الروسي المار ببلاده متجهاً لأوروبا، في حال فرضت الأخيرة حزمة عقوبات جديدة ضد بيلاروسيا، ما وضع أوروبا في موقف صعب للغاية، لاسيما أن روسيا لا تدين هذا التهديد ولا ترفضه بشكل قاطع وواضح بل تصدر إشارات متضاربة، حيث تعلن عدم السماح بعرقلة تدفقات الغاز لأوروبا، في حين تحرص على تقديم كافة أشكال الدعم، بما فيها العسكري، لحليفها البيلاروسي.

ورغم المحاذير الأخلاقية والانسانية لذلك، فإن سلاح المهاجرين أو اللاجئين قد ظهر في هذه الأزمة كأحد أدوات الصراع أو الحروب الهجينة بين الدول والكيانات المتصارعة، ونعتقد أنه بمرور  الوقت وتزايد موجات اللجوء والهجرة غير الشرعية في مناطق مختلفة من العالم لأسباب متباينة قد يزيد من خطط اعتماد الدول إلى هذا "السلاح" لابتزاز دول أخرى أو الضغط عليها استراتيجياً.