فتح مكة .. تحل علينا اليوم ذكرى فتح مكة على أيدي المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم ..وفتح مكة يوم كريم تجلت في كل مواقفه المشرقة بنود سامية تمثل في مجملها إعلانًا عامًّا قاطعًا يؤكد أن الأصل دائمًا وفي جميع الظروف هو التحلي بالقيم النبيلة والخصال الحميدة التي تقدِّم الإصلاح والتعمير على الإفساد والتدمير، وتجنح إلى السلام على حساب الحرب والقتال" .، وإذا كان يوم الهجرة بمنزلة شهادة ميلاد الأمة الإسلامية، و"غزوة بدر" تمثل نضجها وقدرتها على مواجهة الأعداء، فإن "فتح مكة" كان خاتمة هذا النصر؛ فكان الفتح الأكبر والنصر الأعظم للأمة الإسلامية. فزرع خُلق التسامح والعفو عن الناس، وأصبح من الأخلاق الحسنة التي غرسها الإسلام في نفوس المسلمين.

أسباب فتح مكة
كان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ينظم العلاقة بين المسلمين والمشركين لمدة عشر سنوات، وكان من بنوده المهمة أنه “من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخله” فدخلت قبيلة “خزاعة” في تحالف مع المسلمين، ودخلت قبيلة “بكر” في تحالف مع قريش.
وأدت التطورات والأحداث التي أعقبت صلح الحديبية إلى تغير في ميزان القوى بين المسلمين وقريش لصالح المسلمين.. وكما يؤكد خبراء السياسة فإن المعاهدات التي تعقد في ظل اختلال موازين القوى لا بد أن تتغير عندما تتغير هذه الموازين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم -تقديرا منه لعهده وميثاقه- حافظ على ما ورد في صلح الحديبية، عالما ومدركا أنه لا بد من وقوع حادثة من جانب قريش تعصف بالصلح، وتجعل المسلمين في حل من التزاماته.
وصدقت الرؤية النبوية، حيث أغارت قبيلة بكر على خزاعة، وأمدت قريش حليفتها “بكر” بالمال والسلاح، وقتلوا أكثر من عشرين من خزاعة حليفة المسلمين، واعتدوا عليهم رغم لجوئهم إلى الحرم.
وأمام هذا النقض الصريح للعهد ركب “عمرو بن سالم الخزاعي” في أربعين من قومه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه النصرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “نُصرت يا عمرو بن سالم”، وأمر المسلمين بالخروج لمناصرة خزاعة.
وقد حققت مساعدة النبي لخزاعة ووعده لها بالنصرة عدة أهداف، منها أنها فرقت بين أن يحترم المسلمون العهود والمواثيق التي وقعوا عليها، وبين أن يعيشوا في غفلة عما يدبره المهادنون لهم؛ لأن وقائع التاريخ تؤكد أن غالبية العهود ما هي إلا فترات لالتقاط الأنفاس في الصراع، كما أنها كشفت عن احترام المسلمين لتحالفاتهم حتى لو كانت مع خزاعة التي لم تكن قد أسلمت بعد، وأثبتت أن المسلمين جادون في تنفيذ بنود تحالفهم حتى لو كلفهم ذلك دخول حرب، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام القبائل العربية للتحالف مع المسلمين وليس مع قريش (الغادرة)، مع خلق رأي عام في الجزيرة العربية يذيب بعض الحواجز بين هذه القبائل والإسلام، ويجعلهم يستمعون إلى القرآن الكريم دون تحيز مسبق؛ وبالتالي يكسر الحدود الوهمية بينهم وبين الإيمان.

أدركت قريش أنها ارتكبت خطأ إستراتيجيا كبيرا بما أقدمت عليه من تقديم المال والسلاح لقبيلة بكر، وحاولت أن تعالج هذا الخطأ؛ حيث انطلق زعيمها وأكبر ساستها “أبو سفيان بن حرب” إلى المدينة المنورة طلبا في العفو عن هذا الخطأ الفادح، وتجديدا للهدنة، واستشفع بكبار المسلمين مثل أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة، لكن علي بن أبي طالب لخص الموقف بقوله لأبي سفيان: “ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه”؛ فعاد أبو سفيان صفر اليدين إلى قريش واتهم بأن المسلمين لعبوا به. السرية والمفاجأة كان فشل سفارة أبي سفيان لا يعني إلا شيئا واحدا وهو الحرب، وجهز المسلمون جيشا ضخما بلغ قوامه عشرة آلاف مقاتل، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم السرية الشديدة حتى يحقق عنصر المفاجأة لكفار مكة، فكتم وجهة الجيش في التحرك عن الجميع، بما فيهم أبو بكر، حتى إنه دخل على ابنته فسألها عن وجهة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري، وعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه “اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها”. واستكمالا لعملية التوكل التي تجمع بين دعاء الرب والأخذ بالأسباب.
قام النبي صلى الله عليه وسلم بعملية خداع رائعة، اقترنت بعملية تأمين للمعلومات وسرية تحرك الجيش، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية من ثمانية رجال بقيادة “أبي قتادة بن ربعي” إلى مكان يسمى “بطن إضم”، وكان هدفها الحقيقي غير المعلن هو تضليل المشركين، كذلك كانت هناك وحدات صغيرة بقيادة عمر بن الخطاب، قوي الشكيمة، تحقق في الداخلين والخارجين من المدينة المنورة، وتتحفظ على من سلك طريق المدينة- مكة، وبذلك حال دون حصول قريش على أي معلومات عن تجهيزات المسلمين. وأحبطت محاولة كبيرة لتسريب معلومات إلى قريش حول استعدادات المسلمين، قام بها أحد الصحابة البدريين وهو “حاطب بن أبي بلتعة”؛ وتم القبض على المرأة والرسالة التي تحملها من قبله قبل أن تصل إلى قريش.
وما ارتكبه حاطب خيانة عظمى عقوبتها معلومة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الضعف الإنساني قد يصيب بعض المسلمين رغم إيمانهم العميق، لذلك رفض رغبة عمر في قطع رقبة حاطب، وقال له: “وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم”، وأيد القرآن الكريم موقف النبي صلى الله عليه وسلم في “سورة الممتحنة” واصفا حاطبا بالإيمان رغم ما ارتكبه.
دروس نبوية خلال فتح مكة
قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالازهر الشريف أن فتح مكة دروس وأحكام مستفادة في السياسة الداخلية والخارجية، وفيه عبر ومواعظ نتذكرها كل رمضان حيث كان فتح مكة.
وأضاف: "فقبل تحرك النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بجيوشهم لفتح مكة كتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبرهم بذلك فأطلع الله نبيه على ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لعلي والزبير والمقداد: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب فخذوه منها. قال: "فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة. قلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. (يقصدون تهديدها) فأخرجتها من ضفائرها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم بأمور النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا حاطب، ما هذا؟ قال : يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش (ليس له حليف) ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدرا. وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" .
فتح مكة ورعاية شئون الامة في الداخل والخارج
وطالب بالنظر في كيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخطاء الداخل، وإن كان فعل حاطب من الكبائر إلا أنه راعى الشخص والحال والمقام، وعلمنا أن الأحكام المطلقة لا تأتي بخير وأن السياسة هي رعاية شئون الأمة في الداخل والخارج، ويجب علينا الإخلاص لله وإدراك الواقع وتحصيل المصلحة وتحقيق المقاصد، والأمر ليس قاصرًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معلم لمن بعده إلى يوم الدين، بل هو باق ببقاء الدنيا.
وتابع: "وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب (أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم) فجابهم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم، وخرج يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شهر رمضان، وقيل لعشر وقيل لأكثر بعد العصر سنة ثمان من الهجرة، وكان المسلمون عشرة آلاف وقيل اثني عشر ألفا، وكان العباس قد خرج بأهله وعياله مسلما مهاجرا فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض".

واستطرد: "كان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان بن الحارث ابن عمه عليه الصلاة والسلام وأخوه من رضاع حليمة السعدية ومعه ولده جعفر، وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بُعث عاداه وهجاه، وكان لقاؤهما له عليه الصلاة والسلام بالأبواء وأسلما قبل دخول مكة ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما كان بقُديد (وهي اسم مكان) عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل ثم نزل من الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم".
وبيّن أنه في هذه القصة دروس في السياسة والحرب تكاد لا تحصى من السرية إلى قوة الردع التي تؤدي إلى عدم إراقة الدماء إلى جزاء من أراد ولو بحسن نية دمًا يراق إلى تسليم راية سعد لابنه قيس، فالأمر ليس إيغارًا للصدور أو إخراجا للضغينة إلى احترام السفراء والحكمة في التفاوضات والرضا بخطة الرشد من العدو.