الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

بعد حصول روايته على جائزة البوكر للرواية العربية..

محمد النعاس: عندما قرأتُ لإبراهيم الكوني عرفت أن ليبيا تحمل صوتًا مختلفًا

صدى البلد

فاز الكاتب والروائي محمد النعاس، بجائزة البوكر العربية؛ وهو بذلك يعد أول ليبي يفوز بجائزة "البوكر العربية"، وهي أكبر جائزة أدبية في العالم العربي عن روايته "خبز على طاولة الخال ميلاد". وتم الإعلان عن فوز النعاس بالجائزة في مراسم جرت بالعاصمة الإماراتية أبوظبي.

وفازت الرواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للكاتب الليبي الشاب محمد النعاس بالجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بـ "البوكر العربية" في دورتها الخامسة عشرة، واختارت لجنة التحكيم الرواية من بين قائمة ضمت روايات "ماكيت القاهرة" للمصري طارق إمام و"يوميات روز" للإماراتية ريم الكمالي و"الخط الأبيض من الليل" للكويتي خالد النصر الله و"أسير البرتغاليين" للمغربي محسن الوكيلي و"دلشاد" للعمانية بشري خلفان.

وقد أجرى الموقع الرسمي لجائزة “البوكر” حوار صحفيا مع الليبي محمد النعاس قبيل إلإعلان عن فوزه بالرواية.

أوضح الكاتب الليبي خلال الحوار أنه قبيل إعلانه عن الوصول لقائمة القصيرة للجائزة كان في القاهرة "كان لي موعدٌ في أحد مقاهي الزمالك مع صحفيّ جزائريّ، تأخَّر صديقي ولم يصل إلّا قُبيل الإعلان عن القائمة القصيرة بدقائق. تحادثنا قليلًا والتحقت بنا مترجمة فرنسيّة تُقيم بالقاهرة فاستغرقنا في الحديث لتتداخل قصصنا وحكاياتنا، ولكن سرعان ما قطعتها مكالمةٌ هاتفيّة من صديقٍ مُقرّب يعلمني فيها ببلوغ رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" القائمةَ القصيرة، فشكرته، ودسستُ فرحتي في قلبي حياءً من جَليسيّ وأغلقت شبكة الأنترنت لعجزي عن الردّ على التهاني. ظللتُ معهما طيلة ساعتيْن ولم أشارك الناس الفرحة إلّا بعد عودتي إلى الفندق، فهناك فحسب سمحتُ لها بأن تتدفّق كمن يفتح الصنبور للماء الحبيس وبدأت رحلة مشاركتها صحبة ناشري أوّل الأمر ومن ثمّ الأصدقاء والعائلة".

 الموروث اللساني

 

وعن بطل روايته ميلاد أوضح أنه  قد كتب الرواية كي ينقذ ميلاد من غُربته "على الرغم من كثرة الأمثال الشعبيّة في ليبيا لا نجد إلّا مثلاً واحداً يتيماً يرسم صورة الرجل الضد:"عيلة وخالها ميلاد"، وما عدا ذلك فإنّ الموروث اللساني في البلاد لا يحتفي في أمثلتها إلاّ بالرجل المثالي، فتارة هو الذي مات في المعارك التاريخية كالهاني وتشاد، وتارة هو الذي يربّي زوجته على يده، وتارة هو الديك المسيطر على دجاجاته وهو الفارس الذي يكبح جماح فرسه/زوجته، وهكذا تتوالى حتّى يمكنك رسم صورة واضحة لذلك الرجل. أمّا مثل "عيلة وخالها ميلاد" فهو مثل وحيد كميلاد نفسه، لا يرسم صورة حقيقية لهذه الشخصية لمن هم خارج السياق الليبي، ما الذي يفهمه قارئ تونسي أو مصري أو إماراتي من هذا المثل إذا لم أقصّ له الحكاية كلّها؟ لا شيء. ولهذا ظهرت قصة الرجل الواحد (ميلاد) بمساءلة لهذا المثل واستنطاقه قدر ما أمكن.

فمثلًا، كان على شخصية ميلاد أن تكون "خالًا"، هذا يعني أنّه يجب أن لا يكون له أخ، لأنّ العمّ في العرف الليبي هو الذي يقوم مقام الأب لا الخال. يأتي الخال في المرتبة الثانية. وكان من المحتّم أن تكون له أخوات لا أخت واحدة فقط، فالأخت الواحدة قد لا تؤثر في حياته كما تفعل أربع، وكان عليه أن يكون الرجل الوحيد في هذه العائلة (المتكونة من أمّه وأخواته وزوجته)، وكان على والده أن يموت مبكّرا في حياته، ولأنني أعرف سياق المثل، كان على ميلاد أن يخرج بشخصيّة الرجل "الضعيف" وهذا يعني أنّه كان على أهله من النساء أن يحملن نزعات تحررية حتى لو لم يُصرّحن بالأمر، وذلك بتأثيره نّفي شخصيته وحياته واختياراته، وهكذا يمكن تشريح المثل وبناء الشخصية والقصّة منه.

كانت هذه المسألة تبدو لي صعبةً معقّدةً في البداية، ولكن حالما بدأتُ أقتفي مسار الشخصيّة، صارت مسليّةً فجأةً. احتجتُ إلى نماذج عن "المثالية" بالطبع كوالد ميلاد وعبدالسلام والمادونّا، وهي كلّها صور متعدّدة لميلاد يبحث فيها عن رجولةٍ جديدة، ولكن الرواية بأكملها هي رواية الرجل الواحد (ميلاد)، الرجل الّذي تمّ طمس ملامحه في المدوّنة الأدبيّة الليبيّة وفي الموروث الشفويّ وتعمل هذه الرواية على إعادة الملامح إلى وجهه.



تحول كبير
 

وعن نهاية الرواية خاصة أنها شهدت تحوّلًا كبيرًا في شخصية ميلاد أدهشت الكثير من القراء يقول ردا على هذا السؤال “في تقديري لا أرى في النهاية تحوّلًا كبيرًا، لأنّ الرواية مبنيّة بتقاطع الأزمان، فمثلًا النهاية الحقيقية للرواية هي بدايتها، لأنّ أحداثها تدور في الزمن الذي تلا ما فعله بزينب في آخر الكتاب. لم أخطّط لشيء مُعيّن وأنا أكتب، كنتُ أعرف فقط بأنّه كان على الرواية أن تنتهي بنهايتيْن لا ثالثة لهما، الأولى أن يضحّي ميلاد بنفسه والثانية أن يضحّي بزينب، وقد وضعتُ الإشارات عن هاتيْن النهايتيْن في الرواية بأكملها، كان عليّ فقط تتبّع خيط القصّة كما يفعل القرّاء، وكان على زينب إمّا أن تكون نائمةً فعلًا كما ادعى ميلاد في بداية الرواية أو أن تكون كما عرف القارئ بعد ذلك؛ ولهذا اندهشتُ من النهاية حتّى إنّني نسيتُ ما وضعته من إشارات عنها".

يضيف: “ما الّذي أوصل ميلاد إلى التضحية بحبيبته من أجل أن يعيش في هدوء دون تنازعات نفسيّة؟ ميلاد هو الجلّاد والضحيّة في آنٍ واحدٍ، وهو رُكام عقودٍ من الصمتِ، وللصمت جغرافيا وطبقاتٌ وهديرٌ لا نستمع إليه للأسف إلّا حين يثور البركان، لذلك فإنّ الغريب حسب رأيي هو ألّا تشهد الشخصيّة تحوّلًا جارفًا في نهاية الرواية”.


ويرى الروائي محمد النعاس أن الحُب هو الخُبز في هذه الرواية. بالأحرى، علاقة ميلاد مع الناس ومع زينب بالخصوص هي انعكاس لعلاقته مع الخُبز، ميلاد يظن أنّ زينب هي من أنقذته وهدأت روحه، لكنه لم يكن يعرف أنّ الخبز هو من فعل ذلك قبلها وفعله بعدها. إذن، فميلاد لا يحبّ زينب قدر حبّه للخبز، ففي محاولته الأخيرة للانتحار كان رغيف الخبز الذي نَسِيَهُ في البيت هو الذي أنقذه، وكانت علاقته مع زينب هي التي جعلته يحاول الانتحار غرقًا في البحر. إذن دور الخبز محوري ولهذا جاء الفصل الأخير عبارة عن وصفتين: وصفة للخبز، ووصفة للتخلص من زينب. الوصفة الأولى هي وصفة عودة ميلاد إلى حياته الطبيعية، أي العودة لما يُحب فعله وقد كاد يكره العالم من أجله. وبهذا يكون الخبز هو السيّد في الرواية، الخبز هو البطل الحقيقي الذي يمسك بروح البطل المزيّف (ميلاد) وأفعاله، كما كان الخبز دومًا، سيّد الإنسان. يخادعه بهشاشته ومذاقه الفريد ليسيطر عليه.

 

أصوات مألوفة

 

وعن سبب اختيار ميلاد كي يكون الراوي الوحيد داخل الرواية أجاب محمد النعاس: "كان على ميلاد أن يكون الراوي الوحيد في الرواية لأسباب عديدة لعلّ أبرزها أنّ ميلاد شخصيّة مُغيّبة خلف قضبان التصوّرات الذكوريّة، وكان ينبغي أن نسمع صوتَها لأنّ الأصوات الأخرى معروفة ومألوفة، كان يجب منح المصدح لـ "ميلاد" كي يجرح سكون تاريخٍ طويلٍ من الصمت، كان يجب أن يحدّثنا بنفسه، وأن يأخذ حريّته في الكلام، لذلك كان الاستطراد في الرواية مقصودًا، كي يعكس روح ميلاد التوّاقة للقصّ، للحديث، للهروب من الموضوع الرئيس والعودة إليه كما يشاء".

ويستطرد: "إنّ عنوان الرواية "خبز على طاولة الخال ميلاد"، وهو عنوان واضح يعطي أهميّة للخبز أكثر من بقية الشخصيّات، ولا أحد من شخصيّات الرواية كان يملك العلاقة التي يملكها ميلاد مع الخبز نفسه. وإن كتبتُ عن وجهة نظر أيّ شخصيّة أخرى حول الخبز، كانت الرواية ستتشوه".

ويضيف: “متعة الرواية جاءت من كونها محكيّة على لسان ميلاد، ولم أفكّر في كتابتها على لسان زينب مثلًا لأسباب عديدة، أهمّها أنّ زينب هي صوت المرأة الليبية المكبوتة، وفي انعدام جانبها من القصّة قصّة أخرى وتأويل آخر لها. ما يترك مساحة للقارئ لكي يؤوّل قصّتها كما يشاء. فأنا لا أعرف إلى اليوم ما إذا كانت زينب قد خانت ميلاد أم لا، ولا يجدر بي حقيقةً أن أعرف”.
 

صوتا مختلفا

 

وعن الكتاب الذين تأثر بهم أجاب أنه  في البداية يتأثّر الكاتب بكل كتابٍ جيّدٍ يقرؤه "لكن يمكنني أن أسمّي كتّابًا كانوا محطّة مهمة في حياتي. فعند قراءتي لموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، أردتُ بشدّةٍ أن أكتب رواية. كان ذلك قبل أحد عشر عامًا. وعندما قرأتُ روايات إبراهيم الكوني، عرفتُ أنّ ليبيا تحمل صوتًا مختلفًا وعشقتُ الأدب الليبي وبحثتُ عنه في كل كاتب ليبيّ، في كامل المقهور وقصصه القصيرة، خليفة الفاخري، الصادق النهيوم وغيرهم. وعندما قرأتُ نجيب محفوظ، انفتحت أمامي قصص مدينتي وأدركتُ كيف يمكنني الاستفادة من تجربتي الشخصية ومحيطي للكتابة عنها. تعلّمتُ من نيكوس كازانتزاكيس فن الدهشة، ومن جورج أورويل الحسّ السياسي الساخر، ومن أورهان باموق عشق التفاصيل الصغيرة حولي. ومازلتُ أتعلّم إلى اليوم، وإذا سألتِني السؤالَ نفسَه بعد سنوات، قد أجيب إجابة مختلفة تمامًا. يعجبني تشبيه الأدب بـ "قوس قزح" لأنّه يرمز إلى التعدّد والاختلاف والثراء شأنه شأن التجارب الإنسانيّة، وعندما نحصر أثره في لونٍ واحد فإنّنا نحكم على الأدب والإنسان معًا بالنمطيّة والجمود، لذلك أحاول الإفادة من كلّ التجارب في مستوى القراءة، أمّا حين أكتب فإنّني لا أنظر إلّا إلى "قوس قزح" المنتشر تحت سماء ليبيا وفوق ترابها".

 



قراءات

 

وعن الكتب التي يقرأها في الوقت الراهن أشار إلى أنه فرغ  منذ مدّة من قراءة رواية "اسم الوردة" للكاتب الإيطالي أومبرتو إيِكو، ورغم أنني قرأتها في منتصف رمضان فقد ظللتُ أفكّر فيها يوميًّا كأنّني مازلت منغمسًا في قراءتها.

"أمّا الآن فإنّني أقرأ كتبًا متنوّعةً بالتوازي منها ما يتعلّق بالتاريخ مثل أعداد مجلّة "لا" اللّيبية وهي من أبرز الأصوات الحرّة التي كانت تصدح في سماءِ الجماهيرية في تسعينيات القرن الماضي، وقد جعلتني هذه المجلّة أكتشف أمورًا كثيرةً عن ليبيا وتاريخها مع كلّ مقالٍ أو تحقيقٍ صحفيّ منشور فيها، وأنا مستمتع بلذّة الاكتشاف ومندهشٌ في الآن ذاته من بعض المعطيات التي تطالعني للمرّة الأولى.

وأقرأ في الأدب أنطولوجياً للقصة القصيرة في السنوات الستين الماضية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الكتاب قصصٌ لكتّاب أمريكيين مشهورين كستيفن كينغ وتشيمامندا أديتشي، طغت رواياتهم على أعمالهم القصصية.

ولأنني دائمًا ما أحرص على الإبقاء على كتاب علمي بجانبي، فأنا أقرأ منذ شهر مارس الماضي كتابَ "التفكير السريع والبطيء" باللغة الإنجليزية، وهو كتاب يجمع بين علوم الاقتصاد والنفس والاجتماع، ويطرح الكتاب فكرةً أساسيّة مفادُها أنّ لدينا نحن البشر، نظاميْن للتفكير، أحدهما بطيء نستعمله عادةً في العمليات المعقدة والثاني سريع نستعمله في العمليات السريعة كأن نحكم على أحدهم، ربّما كما يفعل الليبيون بميلاد ومن شابهه من المقهورين في هذه الأرض".