الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

البازية ومبرة الشعراوي.. رحلة في تصويب الفكر

الكاتب الصحفي محمد
الكاتب الصحفي محمد الغريب

لم أكن يوماً ممن يعترفون بوجود التصوف أو يؤمن بأفعال المتصوفة، أثق كل الثقة فيما قرأت من أن تلك الأفعال دخيلة وخارجة عن الفطرة المصرية السليمة في اعتناق المذاهب، وأنها نتاج فكر لا علاقة له بخطى صاحب الرسالة الخاتمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ترددت كثيراً في وصف ما كان يفعله جدي وأخوالي وأهالي قريتي في أقاصي محافظة الدقهلية وعلى مقربة من بحيرتها المالحة، تنتابني لحظات من الحيرة والدهشة وأنا أرى جدي مُتصفًا بالجود والكرم والأخلاق حريصاً على الطاعة لا يرد سائلاً ولا يظلم أحداً، إلا أنه كان يقيم الحضرات ويجوب البلاد طلباً في زيارة المقامات والأعتاب وهو عندي شد رحال لغير المساجد الثلاث المأمور بها.

 

لازلت أتذكر طفولتي بين هذه الحضرات وحلقات الذكر التي شهدتها قرية الأجداد التي تقع على مقربة من مقام العارف بالله والصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي بمدينة المنزلة، مروراً باحتفالات المولد النبوي وإنشاد الشيخان محمد عبدالهادي ومحمد الحميلي ونجل الأول خالد محمد عبدالهادي والذي مثل لقريتنا رائحة والده الذي فارق الحياة.

 

بمضي الوقت أصبحت أنظر إلى هذه الأمور برؤية مختلفة تشبه تلك المحرمة لهذه الممارسات  لكني كنت أسعى ناصحاً ومتداخلاً بقلبي ولساني ويدي في بعض الأحيان لمنع كل من يصلي في مسجد يحوى رفات الموتى وإن كان يحمل مسمى ولي أو حفيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن حوار الجد وحفيده كان حتماً أن يكون مصوباً وهادياً فجدي الحاج الدسوقي البرعي لم يكن سوى موسوعة صوفية تمشي على الأرض، جلسنا سوياً قبل رحيله لأجده يتسع صدره معي ويحاول تصويب ما في ذهني من شطط الأفكار ويرشدني إلى عالم الروحانيات والزهد.


بدأ الحديث معه بقوله: هل تثق في الشيخ الشعراوي؟ - كان هذا تعقيباً على حديثي الذي حاولت اقناعه بضرورة البعد عن هذه الممارسات التي تبتعد عن جوهر الدين وتفسد ما يفعله من الصالحات والصلاة، أجبته : بلى، فقال: هو صوفي. فبادرته: بل هو أزهري لا ينتمي لفصيل ولا يعرف أحداً من هؤلاء أو هؤلاء، فتجاذبنا الحديث إلى كتيب "أنا من سلالة آل البيت"، تعجبت. فزادني أنه من الطريقة البازية وأن له مبرة في رحاب ستنا السيدة نفيسة بالقاهرة وأن هناك أمور عظيمة ربما تتكشف أمامي حين اقرأ في رحاب إمام الدعاة.


الطريقة البازية التي كشف الشعراوي عنها خلال حديثه عن الانتماء إلى آل البيت ربما لم أجدها بين الطرق الحالية إلا أنه قال عنها في كتابه:" طريقتنا هى الطريقة البازية.. ليست من اشتقاق الطرق التى تتكلم عنها إنها خاصة بالأشراف فهى نسب الأشراف.. إنها تضم الأشراف فقط، الإشراف الذين هم من نسل الحسن والحسين أى من سلالة أهل البيت"، ومع تبحري في كتاب وأفكار الشيخ يوماً بعد يوم كانت رحلتي الأولى إلى أقاصي صعيد مصر حيث حميثرة أرض الحسن الشاذلي والتي كانت رحلة المحبة كما يسميها جدي رحمه الله تعالى تبدأ بزيارة آل البيت في القاهرة ومنهم إلى رحاب أولياء الله في الصعيد.


يقول الشيخ الشعراوي في تعريف الصوفي والتصوف: "إن الصوفي هو الذي يتقرب إلى الله بفروض الله، ثم يزيدها بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، من جنس ما فرض الله، وأن يكون عنده صفاء في استقبال أقضية العبادة، فيكون صافياً لله، والصفاء: هو كونك تصافي الله فيصافيك الله".


ويمضي:"كل إنسان وصل إلى الله بطريق من الطرق، أو صيغة من الصيغ، يعتقد أن الطريق الذي سلكه إلى الله هو أقصر الطرق، ولذلك اختلف الناس؛ لأن وسائل عبادة الله متعددة، فإذا دخل إنسان من باب وطريق وأحس أنه نقله وأوصله إلى الله، بادر إلى نقله لمن يحب.. ومن هنا، فإن معنى أن هناك طرقاً صوفية هو أن أناساً وصلوا إلى الصفاء من الله سبحانه وتعالى، وجاءتهم الإشراقات والعلاقات التي تدل على ذلك في ذواتهم، فعلموا أن الطريق الذي سلكوا فيه إلى الله صحيح، وكلما زادوا في العبادة: زاد الله في العطاء".


وما زادني عجبا ما علمته من جدي بشأن مبرة الشيخ الشعراوي والتي أقيمت في رحاب السيدة نفيسة رضي الله عنه، والتي يقول الشيخ في دافعه إليها:" "الجوع له صولة ! ولذلك نجد في عام المجاعة أن سيدنا عمر بن الخطاب قد أسقط الحد لشبهة أن يكون الجائع قد سرق من الجوع"، ويمضي في حديثه : الله حين امتن على قريش ، جعل قمة الامتنان أنه {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}، إذن فإطعام الجائع هو (المنة) التى امتن الله بها على قريش، والسائل الذي يسأل عن مال قد يكون لديه المال ويدخره، قد يسأل عن غير حاجة، ولكن الذي يسأل عن لقمة الطعام لابد أن تعتبره أصدق سؤال، لأن الإنسان إذا كان شبعان لا يمكن أن يدخل طعامًا إلى جوفه.


فحين يسأل الإنسان عن اللقمة فهو صادق فى الحاجة.
وقال أيضا: الإطعام يجب أن يكون هو الأساس فى البر، ونحن نعرف أن أشد ما يواجه الناس من الأزمات هو المجاعة وبعدها الخوف، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}. 


وختاماً.. ربما ما قاله الشيخ الشعراوي -ونحن في ذكرى رحيله- في مسائل التصوف من جواز الصلاة في المساجد التي بها مقامات وأضرحة لم يجد ضالته إلى قلبي على وجه اليقين، لكن القراءة منه والسماع عنه وما لمسته في رحلتي الأولى بالصعيد والتي لم تكن الأخيرة كانت سبيلاً لتصويب بعض أفكاري في الحكم على هؤلاء الدراويش وأفعالهم بعين الجمود والتشدد، فكنت كما أوصاني جدي حريصاً على ألا أرفض طعام البسطاء والفرح بفرحهم وأن أحب معهم ومنهم لعل في الحب طريقاً للنجاة، وفي التقرب سبيلاً للفلاح.. رحم الله إمام الدعاة.