الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قنبلة روسيا الديموغرافية.. الهروب الكبير بعد قرار التعبئة الجزئية يدمر حياد الدول السوفيتية السابقة.. وسياسة موسكو بشأن تجنيس المقاتلين تثير مخاوف من ظاهرة "العائدين"

هروب الروس من التعبئة
هروب الروس من التعبئة الجزئية

منذ نشوب الحرب الروسية الأوكرانية التزمت معظم دول الاتحاد السوفيتي السابق بحياد غير معلن رسميًا، وأدركت موسكو من جانبها أن أي ضغط على جيرانها للانحياز لها من شأنه زعزعة استقرار المنطقة، ولذا لم تمارس ضغوطًا أكثر من اللازم، ولم تطلب منها مثلا تأييد عمليتها العسكرية في أوكرانيا أو الاعتراف بانضمام المناطق الانفصالية الأوكرانية إلى السيادة الروسية.

ووفقًا لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، كان شرط روسيا الوحيد على دول الاتحاد السوفيتي السابق هو عدم إمداد أوكرانيا بالأسلحة، وقد أوقفت كازاخستان بالفعل مبيعات الأسلحة إلى أوكرانيا تجنبًا لاستفزاز موسكو، أما المساعدات الإنسانية لأوكرانيا، وحتى التغطيات الإعلامية المتعاطفة معها أو بيانات السياسيين المناوئين لروسيا في الدول السوفيتية السابقة، فقد تغاضت روسيا عنها بقدر كبير من المرونة.

فوضى الجنسيات بين روسيا وجوارها السوفيتي السابق

بدا هذا التوازن هشًا، ومع ذلك كان من الممكن أن يستمر لبعض الوقت لولا إعلان روسيا التعبئة الجزئية لاحتياطي قواتها المسلحة، الأمر الذي أربك الوضع الراهن وأجبر الدول المجاورة على تبني مواقف أكثر حسماً.

خلقت التعبئة مشكلتين لجيران روسيا؛ فمن ناحية هربت أعداد كبيرة من الروس من البلاد لتجنب استدعائهم إجباريًا، ووصل 100 ألف منهم إلى كازاخستان وحدها في أسبوع واحد فقط. ومن ناحية أخرى، دأبت السلطات الروسية على استقطاب العمالة الوافدة من الدول المجاورة بشكل علني، حيث تقدم رواتب جيدة وإجراءات سريعة للحصول على الجنسية الروسية مقابل الانضمام إلى الجيش.

وبسبب الانزعاج من احتمال عودة رعاياها إلى أوطانهم مع الخبرة القتالية المكتسبة في أوكرانيا، ردت وزارات الخارجية في أوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان بسرعة على إجراءات موسكو، مذكّرة مواطنيها بأن القتال في الخارج يعتبر جريمة جنائية.

ولم تكن هذه النداءات موجهة فقط إلى مواطني دول آسيا الوسطى الذين يسعون للحصول على جواز سفر روسي، وإنما أيضًا إلى أولئك الذين يحملون بالفعل جواز سفر روسيًا بالإضافة إلى جنسيتهم الأوزبكية أو الطاجيكية أو القرغيزية، إذ سيواجه هؤلاء وضعًا قانونيًا غامضًا، حيث يمكن اعتبار نفس الشخص إما محاربًا قديمًا أو مجرمًا، اعتمادًا على جواز السفر الذي سيستخدمه. وقد تؤدي مسألة إعادة أسرى الحرب إلى بلدانهم الأصلية أو إلى روسيا في نهاية المطاف إلى توترات خطيرة بين موسكو وعواصم آسيا الوسطى.

التعبئة الجزئية تطلق موجة هروب كبرى من روسيا

اللغز الآخر هو ما يجب فعله مع عشرات الآلاف من الروس الذين فروا إلى البلدان المجاورة. تواجه كازاخستان أكبر تدفق، بسبب حدودها البرية الهائلة وخطوط السكك الحديدية العديدة مع روسيا. وفي الوقت الحالي ، يأمل جيران روسيا أن ينتقل العديد من الوافدين الجدد قريبًا إلى دول أخرى أكثر قدرة على تحمل اللاجئين، ولكن لن يتمكن الجميع من القيام بذلك، نظرًا لأن الاتحاد الأوروبي يحد من عدد التأشيرات الصادرة للمواطنين الروس.

ولأن عدد كبير من الجمهوريات السوفيتية السابقة شريكة لروسيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، فهي ملزمة من الناحية النظرية على الأقل بالامتناع عن الإضرار بالقدرات الدفاعية لبعضها ورفض إيواء المتهربين من التجنيد.

ولكن حتى الآن تجد الدول السوفيتية السابقة مخرجًا من هذا المأزق بالالتزام بنص القانون، فمثلا صرحت السلطات الكازاخية والأوزبكية بالفعل بأنها ملزمة بتسليم المواطنين الروس إلى موسكو فقط إذا تم إدراجهم على قوائم المطلوبين الدوليين، والتي يتم الاحتفاظ بها للجرائم الأكثر خطورة من التهرب من الخدمة العسكرية.

السكان والوافدون الروس.. بوادر الاحتكاك تلوح في الأفق

يتماشى هذا الموقف الرسمي مع الرأي العام في تلك الدول، إذ يتعاطف السكان المحليون بشكل عام مع الوافدين الروس، على الرغم من أن هذا التعاطف يشوبه أحيانًا بعض الشك وحتى الخوف، فبالنظر إلى ولع بوتين بشن حروب بهدف حماية العرقية الروسية في تلك البلدان، فإن فكرة أنه قد يقرر غدًا "حماية" أولئك الروس الذين فروا من قبضته لا تبدو مستبعدة.

وهناك عوامل أخرى تقلق سكان دول جوار روسيا من تدفق الروس إليها، فهناك بالفعل نقص في الأماكن المتاحة في مدارس ورياض الأطفال في آسيا الوسطى حتى قبل التدفق الروسي، ويقلق مستأجري الشقق في المدن الكبيرة بشكل خاص من تقارير عن طردهم لكي يتمكن أصحاب العقارات من إعادة تأجيرها للروس بضعف السعر.

من جانب آخر، يخشى القوميون من أن التدفق الروسي قد يغير التراكيب العرقية لبلدانهم، لا سيما في مناطق مثل شمال كازاخستان أو عاصمة قيرغيزستان بيشكيك، حيث يشكل الروس بالفعل نسبة كبيرة من السكان.

وعاجلًا أم آجلًا، ستجبر النزاعات المحتملة بين القادمين الروس الجدد والسكان المحليين قريبًا المسئولين الحكوميين في دول الاتحاد السوفيتي السابق على تبني مواقف أكثر واقعية للتعامل مع الوافدين الروس. من المرجح أن يواصل جيران روسيا إبعاد أنفسهم بقدر الإمكان عن المشكلات التي تخلقها موسكو، ولكن مع فرار المزيد من الروس إلى البلدان المجاورة وانضمام المزيد من مواطني تلك الدول إلى القتال في أوكرانيا، ستجد حكوماتها صعوبة متزايدة في تجاهل هذه التطورات.