دشنت ألمانيا قبل أيام أول وحدة عائمة لاستقبال الغاز الطبيعي المسال، وذلك في إطار استراتيجية للتعاطي مع فصل الشتاء، وتجنب أي نقص في إمدادات الطاقة للتدفئة، وكذلك التخلي عن شحنات الغاز الروسية التي توقفت بسبب الحرب في أوكرانيا.
وقال المستشار الألماني أولاف شولتس، في كلمة ألقاها خلال حفل التدشين بمحطة "فيلهلمسهافن" على شاطئ بحر الشمال: "إنه يوم خير لبلدنا وإشارة للعالم كله الى أن الاقتصاد الألماني قادر على أن يبقى قويا، والتعامل مع التحدي، عندما قلنا إنه، على سبيل المثال، يجب بناء مثل هذه الوحدة هنا في فيلهلمسهافن هذا العام، قال الكثيرون إن هذا غير ممكن أبدا، وإنه لن ينجح مطلقا، ولكن العكس صحيح".
وستقام خمس وحدات عائمة أخرى خلال الأشهر المقبلة، حيث خصصت برلين مليارات اليوروهات لهذا الغرض، فيما تتألف الوحدة من منصة للرسوم وسفينة تسمى "وحدة عائمة لتخزين الغاز وإعادة تحويله"، ويتم عادة جلب الغاز الطبيعي المسال إلى هذه السفن وتخزينه وإعادة تحويله إلى غاز قبل إرساله إلى الشبكة.
وخلافا لبلدان أوروبية أخرى، لم تكن ألمانيا تملك وحدات من هذا النوع على أراضيها، وكانت تفضل المصدر الأقل كلفة وهو خطوط الأنابيب الروسية التي كانت تعتمد عليها في 55 بالمئة من وارداتها، غير أن اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير الماضي دفع برلين إلى إعادة التفكير بهذا الشأن لتأمين احتياجاتها.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أنه منذ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قبل نحو 10 أشهر، تعلمت الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، كيف يمكن الحياة والاستمرار بدون إمدادات الطاقة الروسية، خاصة وأن الكرملين حاول جاهدا استغلال اعتماد أوروبا على الطاقة كسلاح لبث الفتنة بين القادة الأوروبيين وإضعاف الجبهة الموحدة للاتحاد الأوروبي في دعم أوكرانيا، وهو ما فشل في الغالب، على حد قول المجلة.
وأوضحت المجلة أنه عندما أوقفت روسيا تدفقات الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1" في سبتمبر الماضي، حذر قادة الاتحاد الأوروبي من أن ذلك قد يؤدي إلى أزمة طاقة كبيرة للكتلة الأوروبية، غير أن العديد من دول الاتحاد، بما في ذلك ألمانيا، سرعان ما اتخذت إجراءات لترشيد استخدام الطاقة.
وأشارت "فورين بوليسي" إلى أنه مع حلول فصل الشتاء، هدأت المخاوف من النقص الحاد في الطاقة إلى حد كبير، أو على الأقل في الوقت الحالي. ويعود الفضل في ذلك إلى صهاريج احتياطيات الغاز الممتلئة، واستثمار الدول الأوروبية في حزم الدعم لتخفيف الضغط الناجم عن ارتفاع أسعار الطاقة، وتوجه قادة دول الاتحاد الأوروبي نحو استبدال واردات الطاقة الروسية بسرعة بالغاز والنفط من دول أخرى إلى جانب التوسع في البنية التحتية للطاقة المتجددة.
ويقول بن كاهيل، خبير الطاقة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "ليس بالأمر الهين أن تتغير أمور كانت أوروبا معتادة عليها لعقود بين ليلة وضحاها، فبحلول فصل الشتاء، كانت أوروبا مستعدة نسبيا (لتوفير إمدادات الطاقة للتدفئة)، ولكن الشتاء المقبل سيكون أصعب بكثير، ويرجع ذلك إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ستحتاج إلى البدء في سد كافة احتياجاتها من الطاقة بدون إمدادات روسية، ويشمل ذلك إعادة تعبئة صهاريج تخزين الغاز الصيف المقبل دون تدفق كبير للغاز الروسي الرخيص، وهو ما يمثل التحدي الأكبر أمامهم".
وبلا شك، لا يعني ما سبق أن الشتاء الحالي سيكون سهلا، لقد كان توجه الاتحاد الأوروبي بالتحول السريع بعيدا عن الطاقة الروسية مكلفا، سواء بالنسبة للأسر أو الشركات التي تسعى جاهدة لمواكبة الارتفاع السريع في أسعار الطاقة وكذلك بالنسبة للبلدان التي تضع حزم إنقاذ مكلفة لمساعدة المستهلكين والشركات على تغطية فواتيرهم المرتفعة، ويمكن أن يتسبب البرد القارس بشكل خاص في زيادة استهلاك الطاقة؛ ما سيؤدي إلى استنفاد الاحتياطيات بشكل أسرع وتجديد القلق بشأن النقص المحتمل.
فعلى سبيل المثال، أدى أسبوع شديد البرودة في ألمانيا في شهر ديسمبر الجاري إلى انخفاض بنسبة 5 في المئة فقط في استهلاك الطاقة مقارنة بالسنوات الأخيرة، وهو معدل أقل بكثير من الهدف المعلن المتمثل في خفض الاستهلاك بنسبة 20 في المئة.
وترى المجلة الأمريكية أن هناك جانبا إيجابيا للحرب في أوكرانيا يتعلق بالطاقة الجديدة والمتجددة، إذ قرر قادة الاتحاد الأوروبي دفع الكتلة الأوروبية نحو التوسع في الاعتماد على الطاقة المتجددة، وهو ما تجلى في تبني المفوضية الأوروبية مقترحا بزيادة نسبة الطاقة المتجددة من مزيج الطاقة لتصل إلى 45 في المئة في العام 2030 ارتفاعا من 20 في المئة في الوقت الحالي.
وفي هذا الصدد، قال تيمو وولكن، عضو البرلمان الأوروبي عن حزب الديمقراطيين الاشتراكيين من يسار الوسط في ألمانيا: "أعتقد حقا أن هذه الحرب المروعة غيرت بعض الأمور، حيث سنتخلى بسرعة أكبر عن الوقود الأحفوري، سيكون ذلك بمثابة نكسة على المدى القصير، ولكن على المدى المتوسط والطويل، ستكون بالتأكيد دفعة جيدة للطاقة المتجددة" على حد قوله.
ووفقا للمثل الشائع "لا يمكنك صنع الفضة دون الحصول على بعض الخبث"، فإن دولا مثل ألمانيا وهولندا وإيطاليا، وفي محاولة منها لاستبدال النفط والغاز الروسي على المدى القصير، تعمل حاليا على إعادة تشغيل بعض محطات الطاقة القديمة التي تعمل بالفحم لسد فجوة الطاقة، كما تتفاوض دول الاتحاد الأوروبي على عقود طويلة الأجل لتوريد الغاز مع دول مثل قطر، وسط آمال بتأمين الكتلة الأوروبية عقود غاز بكميات أكبر مما كانت روسيا توفره.
وتؤكد "فورين بوليسي" أن جهود أوروبا المعقدة والمنسقة لتعويض واردات الطاقة الروسية تقف حاليا في مواجهة استراتيجة الكرملين لاستخدام الطاقة كوسيلة للضغط على أوروبا حيال مسألة دعم أوكرانيا، وأن السؤال المطروح حاليا هو: إذا لم تستطع موسكو تجميد أوروبا (بسبب برودة الشتاء) وإجبارها على الخضوع، فما هي الأدوات الأخرى التي يمكن اللجوء إليها؟، يرى المراقبون أنه من السابق لأوانه معرفة الإجابة على هذا السؤال، خاصة وأن الجولة التالية من العقوبات على الصادرات الروسية لن تدخل حيز التنفيذ حتى أوائل فبراير المقبل، وإذا ردت روسيا بقطع المزيد من إمدادات الطاقة، فإن ذلك سيعاقب الدول التي هي في أمس الحاجة إليها، مثل الصين وتركيا، وإن موسكو تكون بذلك كمن "أطلق النار على قدميه، ولكن كل الأشياء ممكنة خاصة وأن روسيا لا تتصرف دائما بطرق عقلانية اقتصاديا"، وفقا لوصف المجلة الأمريكية.
فورين بوليسي: أوروبا تتطلع لجعل اقتصادها أكثر استقلالية عن واردات الغاز الروسية
