الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب: أنوار الفاتحة (1)

د. محمود الهواري
د. محمود الهواري الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية

مع كثرة خصال الخير الَّتي تكون في شهر رمضان من قيامٍ وصدقةٍ، وبرٍّ ونفقةٍ؛ إلَّا أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لمَّا وصف شهر رمضان خصَّه بأنَّه أُنزلَ فيه القرآن، وأعلن ذلك في كتابه فقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185].
ومن باب طلب الخيرات نحاول أن نلتمس في شهر القرآن من السُّور أنوارها ومن الآيات بركاتِها.
وإذا كان القرآن الكريم بركةً في كلِّ جوانبه: في أجزائه  آياتٍ وسورًا، وفي ألفاظه حروفًا وكلماتٍ وجملًا، وفي معانيه خبرًا وإنشاءً وأمرًا ونهيًا؛ فإنَّ أولى السُّور بالتَّأمُّل «سورة الفاتحة» الَّتي يسرع النَّاس إلى قراءتها في كثير من مواقف حياتهم تبرُّكًا بها، فعند عقد النِّكاح يقرأ النَّاس الفاتحة وقد كست وجوههم أمارات الفرح، وعند فضِّ الخصومة يقرأ النَّاس الفاتحة وقد سكن أفئدتَهم أمنٌ بعد خوفٍ وفزعٍ، وعند توثيق أمرٍ وإتمام صفقةٍ يقرأ النَّاس الفاتحة وقد ائتمن بعضهم بعضًا، وفي غير ذلك من مواقف الحياة.
وهذه السُّورة لها مكانةٌ كبيرةٌ يدلُّ عليها العقل والنَّقل.
فأمَّا العقلُ فإنَّ سورةً موجزةَ الكلمات، قصيرةَ الآيات يأمر الله –جلَّ جلاله- عبادَه أن يردِّدوها في كُلِّ صلاةٍ فرضًا ونفلًا حتَّى في صلاة الجنازة، ويجعلها ركنًا من أركان الصَّلاة حريُّ أن تكون سورةً عظيمةً.
وأمَّا النَّقل فقد ثبت عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضِي الله عنهما- أنَّه قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ.
وقد أعلن سيِّدُنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مكانة السُّورة حين وَضَعَ يَدَهُ عَلَى يَدِ أُبَيِّ بْنَ كَعْبٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا»، فَجَعَلَ أُبَيٌّ يُبْطِئُ فِي الْمَشْيِ رَجَاءَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ السُّورَةَ الَّتِي وَعَدْتَنِي، قَالَ: «كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟» قَالَ: فَقَرَأْتُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ». 
فهذان الحديثان يُغنيان عن ذكر غيرهما من الأحاديث الكثيرة الَّتي تُظهِر عظمة السُّورة وفضلَها.
ولمنزلةِ السُّورة تعدَّدت أسماؤها، فهي «فاتحة الكتاب» افتتح الله بها كتابه خطًّا، وهي «السَّبع المثاني» سبع آياتٍ تعاد في كلِّ صلاةٍ، وهي «أمُّ الكتاب» اشتملت على مقاصده ومعانيه، وهي «الشِّفاء» من أدواءِ القلبِ، وهي «الرُّقية» كما في حديث أبي سعيد الخدريِّ، وهي «الحمد» يحمد العباد بها ربَّهم، وغير ذلك من أسماءٍ كثيرةٍ تدلُّ على شرفها.
فما أجمل أن نعيش مع القرآن متدبِّرين، ولمعانيه فاهمين، وبأحكامه عاملين.