تقف البشرية بحذر وترقب شديدين قبل الإقدام على الدخول في الثورة الصناعية الخامسة، نظرا لحساسية وخطورة الشرط الحضاري القائمة عليه هذه الموجة ألا وهو دمج الإنسان والآلة، وما يحمله هذا التوجه من مخاوف ومحاذير حول ضبابية الرؤية وحالة اللايقين نحو مستقبل الإنسان والحياة على سطح الأرض، خاصة بعد أن أتمت الموجة الصناعية الرابعة (أقصر الثورات الصناعية عمرا) منجزها بعجلة تسارع لم تكن متوقعة بفضل المعلوماتية وعمليات الرقمنة وإنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد وتطور الذكاء الاصطناعي "والأتمتة" التي اصبحت منجزا ولقبا في نفس الوقت للثورة الصناعية الرابعة.
وفي المقابل يقف المتفائلون ببشريات الثورة الصناعية الخامسة وما تحمله من فرص للبشرية في تجاوز أزمات المعلوماتية والاتصال والشفافية والثقة والأمن السيبراني وقضايا الغذاء والصحة والكفاءة والإنتاجية، خاصة وان عمليات الدمج سوف تتم بحذر شديد وبحوكمة قبل الدخول في قطاعات الطب والزراعة والصناعة والسياسة العامة والحياة اليومية للبشر، وأيا كانت توجهات المتوجسين او المتفائلين فإن الولوج نحو الثورة الصناعية الخامسة اصبح امرا واقعا وكل ما هنالك مجرد وقت نظرا للدفع الكبير الذي تدفع به منجزات الثورة الصناعية الرابعة نحو التحول لموجة جديدة من حياة البشرية، وفي القلب من هذا التحول تقف قضايا ذوي الإعاقة وآمالهم نحو مستقبل افضل يقدم حلولا صحية وعملية في المقام الاول، ويوفر فرصا للدمج والتمكين عبر رفع القدرات والإمكانات بتجاوز مسببات القصور البدني والذهني والحسي تقنيا، وبرفع المخاطر التي كانت تفرضها طبيعة الاعاقات ومهددات البيئة وانخفاض القدرة على الاستجابة وتحقيق السلامة الذاتية.
ستوفر الثورة الصناعية الخامسة تقنيات اكثر نجاعة لذوي الاعاقة بدمج الشرائح التفاعلية فائقة السرعة، والتي تستطيع تأدية المهام وفق نموذج تفاعلي يفتقد للبرمجة التقليدية ويتفاعل بالشكل الذي تحدده مقتضيات التحكم المحاكي للبشر الطبيعين في خطوة لتجاوز البرمجة الآلية في تقنيات الثورة الرابعة، ستطغى منتجات الاطراف الصناعية بالطباعة ثلاثية الابعاد لتعطي مظهرا يحاكي الطبيعي وبقدرات تضاهي التحكم التقليدي لغير المصابين، وسيستطيع دماغ المتوحد ان يتواصل مع ادمغة المحيطين والتعبير عبر البيوتوكنولوحي المهندس وسيستطيع الضرير ان يرى ما حوله عبر شبكات مزروعة تحمل له الصور الى الدماغ، سيرصد اصحاب القصور الذهني مخاطر البيئة وستصدر الاوامر الى مدركاتهم بالذات وبالكائنات وستوفر التقنيات اجهزة تحفيز بديلة تصدر النبضات الكهروعصبية لاصحاب القصور الحركي، سيصبح ضمور العضلات والشلل الدماغي جزءا من الماضي وستتحول الكراسي المتحركة الى شرائح واسلاك غير مرئية، سترتفع محصلة التعليم لاصحاب صعوبات التعلم بفضل شبكة الموصلات العصبية التي تحمل ملايين المشابك العصبية التي تحاكي مشابك اصحاب المواهب والعباقرة، ودوائيا سيتم تصميم الأدوية المفصلة لتجاوز الكروموسومات والتحورات الجينية وسيتم استخدام تقنية المقص الجيني كريسبر-كاس9 وتقنية تحرير القواعد النيتروحينية المفردة للكشف على الاجنة والتعديل على الاعاقات والطفرات قبل الولادة.
في حقيقة الامر ان هذه التقنيات تم استخدامها منذ العام 2012 في الولايات المتحدة وبريطانيا والصين، ولكنها ستشهد طفرة على مستوى الاستخدام الجماهيري نظرا لانخفاض التكلفة وارتفاع النتائج مع تقنيات الثورة الصناعية الخامسة، فيما يعكف مهندسوا المجتمعات ومهندسوا القيم والافكار والنظم على التمهيد لاستقبال جيل من ذوي الاعاقة محسن ومأهل بثوب جديد، جيل يحتاج الى ارضية قانونية وتشريعية وثقافية تعي ان المرئي اصبح غير مرئي، وان طبيعة الاحتياجات الخاصة اصبحت في تقنيات وادوية وبرامج تحتاج الى حماية حق المعاق في توفرها حتى ينضم الى طابور المنتجين في الدولة، وان رجل الشارع واصحاب الاعمال والمديرين والمخالطين لابد ان تتوفر لديهم الخلفية الاخلاقية للتعامل مع شخص يحمل اختلافا وله احتياجات خاصة بالاساس تم تعديلها وتطويرها لتتناسب مع اول ثورة صناعية محورها الانسان وهي الثورة الصناعية الخامسة، بعكس الثورات الصناعية السابقة التي كانت تتمحور حول التقنية فقط بدءا من البخار والكهرباء والحاسوب ووصولا الى انترنت الاشياء والروبوتس في الثورة الصناعية الرابعة.
في هذا المقام نحتاج هنا في الوطن العربي الى وعي بهذا الكم من التحولات العلمية والتقنية والقيمية، والى ان يعي القائمون في هذا المجال ان لدينا ما يشبه "الشعب" القادر على اعادة تأهيله ببرامج وتقنيات اكثر كفاءة عن ذي قبل، ليشارك هؤلاء في الناتج القومي للدولة، ولكي يتحولوا من عبئ "اذا جاز التعبير" الى قيمة مضافة في قدرات الدولة وقوتها بجناحيها الصلبة والناعمة، خاصة وان الاعداد في الوطن العربي كبيرة بسبب الحروب وعادات الزواج وتحولات المناخ والبيئة وانخفاض الرعاية والتأهيل منذ الطفولة، نحتاج في الوطن العربي في هذا الصدد الى ما يلي:
1- انشاء جيل من الاطباء والممارسين المدربين على استخدام تكنولوجيا المقص الجيني وتحرير الجينات في التشخيص والعلاج والتدخل المبكر.
2- انشاء كوادر من المتخصصين في التأهيل النفسي والفيزيائي والاجتماعي يمتلكون الخلفيات المهنية والمعرفية والخبرة الكافية بالتطورات العلمية والتقنية وما يتبع ذلك من برامج تأهيل وارشاد تواكب الفرص والتحديات التي تفرزها الثورة الصناعية الخامسة.
3- فتح ابواب الاستثمار فيما يعرف باقتصاديات الاشخاص ذوي الاعاقة، والتي لها ان تدعم وتحفز الاقتصاديات الوطنية بتقديم طاقات بشرية جديدة لها بصمتها الانتاجية المميزة، والتي لها ان تفتح مجالات عمل وانتاجية في مجالات الطب والصناعة وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، ما يعظم من قدرات اقتصاديات الدول العربية على "الربط".. أحد اهم المزايا التنافسية لاقتصاديات القرن الواحد وعشرين، وما يرفع الكاهل الاقتصادي الذي كانت تسببه انظمة الرعاية القديمة.
4- بناء جسور من الثقة نحو تقنيات الأتمتة والذكاء الاصطناعي التفاعلي ودمج الآلات والتعديل الوراثي، نظرا لرهاب المعرفة ورهاب التكنولوجيا الذي يعد اكثر انواع الرهاب انتشارا في المنطقة العربية ولتلك الفئات.
5- تبني المفاهيم النوعية الحديثة التي تعبر عن طبيعة الكثير من الاعاقات الحديثة من ناحية، والتي تعبر عن طبيعة التطور العلمي والتقني من ناحية اخرى، كمفهوم الاعاقات غير المرئية والاعاقات الجهازية واعاقة ما فوق الجينات.
6- تعميق سياسة البعثات التعليمية في صفوف ذوي الاعاقة انفسهم حيث ان غالبية ذوي الاعاقة في الوطن العربي يعانون من ضعف التفاعلية البيئية والاحتكاك الثقافي، وستوفر تقنيات الثورة الصناعية الخامسة فرصا اكبر في الاعتماد على الذات في التنقل والسفر وتحقيق الخبرة الشخصية الذاتية.
7- نشر التوعية في المجال العام وبين الافراد بكافة تلك التطورات وقيمها العلمية والمادية والأخلاقية، ما يفسح مجالا اوسع للوئام الاجتماعي والاسري والمهني.
8- اعادة هيكلة المؤسسات والمجالس المعنية ومنظمات المجتمع المدني وفق الضرورات والمزايا التي تتيحها الثورة الصناعية الخامسة، واعداد نهج تفاعلي يتناسب مع تلك التطورات والمأمول منها في ملفات ذوي الهمم.
9- اعادة هيكلة المبنى الحقوقي والتشريعي بالشكل الذي يتناسب وتطلعات الثورة الصناعية الخامسة، وما يتوافق مع الفرص والتحديات والمفاهيم النوعية الحديثة.