ذات مساء خريفي، وصلت إلى ساقية الصاوي قبل موعد الندوة بنصف ساعة. كنت سأقدم الأمسية، وقررت أن أحتسي قهوتي بهدوء في أحد أركان الكافيتريا المطلة على النيل، قبل أن أواجه الأضواء والميكروفون.
لا شيء لافت في المكان، ومع ذلك كان يحتفظ بسحره المعتاد، الطاولات الخشبية البسيطة، ضوء أصفر هادئ ينسدل على الوجوه، رائحة قهوة تشبه تلك التي كانت تُعدها جدتي في صباحات الشتاء القديمة، وراديو قديم يهمس بأغنية لأم كلثوم من مسافة بعيدة... أغنية لم أعش زمنها، لكنني تعلقت بها كما لو كانت تُغنى لأجلي وحدي.
هناك، لمحته…
رجل ثمانيني، يطالع جريدة كما لو أنها امتداد ليده، يرتشف الشاي ببطء من كوب زجاجي صغير. لم أكن أعرفه، لكن شيئًا ما في ملامحه بدا مألوفًا... يشبه رجال ريف وصعيد مصر عندما يخلعون ملامح المدينة، ويعودون -حتى للحظات-أولاد ترابهم.
حين تحدث إلي، لم يكن صوته مرتفعًا، لكنه حمل ما يكفي من دفء ليهز في القلب شيئًا نام. ابتسم وسألني:
“لسه في حد بيسمع الست؟”
اقترب مني، وقدم نفسه بتحفظ أنيق، وأخبرني أنه متشوق لسماعي في الندوة. ثم واصل حديثه:
“زمان... لما كانت أم كلثوم تطلع في الراديو، كنا نقفل الشبابيك... مش عشان الصوت يطلعش، لا... عشان ما يدخلش علينا صوت تاني.”
ضحكت، ولم أقل شيئًا. واصل الحديث، وأنا أستمع بشغف.
من هنا بدأت الحكاية…
ثم أكمل بحرارة:
لم نكن نعرف أن تلك اللحظات العادية جدًا، ستغدو ذات يوم من أعذب ما في الذاكرة.
كانت أم كلثوم تغني، ونحن جالسون على الأرض، أو على أطراف المقاعد، نحتسي الشاي الثقيل بصمت.
الصالة مظلمة قليلًا، والمروحة تئن فوق رؤوسنا، ووالدتي تهمس: "اصمتوا... الست بدأت".
لم تكن أغنية.. كانت طقسًا، وكانت مصر.
كنا نعرف المناسبات من الأغاني…
لم نكن بحاجة إلى تقويم على الحائط أو إشعار على الهاتف. كنا نعرف أن الخميس قد حل لأن صوت الست بدأ يملأ الصالة، وأنه العيد حين تبدأ أمي يومها بـ"يا ليلة العيد أنستينا"، وأن الجمعة لا تكتمل إلا وعبد الوهاب ينشد كأنه يرتل، وأن فرحة النجاح تعني أن عبد الحليم سيغني "الناجح يرفع ايده".
في بيتنا، كانت الأغاني يُبنى حولها اليوم أحيانًا. أمي تُحمر الباذنجان وهي تدندن مع "أنا في انتظارك"، وأبي، الذي لا يقول كثيرًا، كان يُصلح شيئًا في المروحة القديمة بينما يتمايل رأسه مع "عدى النهار".
وكنا نحن... أطفالًا لا نفهم كلمات "أروح لمين"، لكننا نبكيها بصدق، ونظن أن الحزن نغمة، وأن الوطن صوت.
مرت السنوات... حمل البعض حقائبهم، غادروا بعيدًا، إلى مدن لا تفهم الفرق بين مقام "الراست" و"الصبا"، ولا تعرف لماذا نقف صامتين حين تبدأ "الأطلال".
ولكننا لم نغادر تمامًا.
تركنا شيئًا هناك، وبقي شيء معنا هنا: ذلك الشيء هو الصوت... صوت الست، وصوت عبد الوهاب، وصوت فيروز وهي تقول "سنرجع يومًا".
هذا ما لم يستطع المطار مصادرته.
نحن جيل تربى على "الطقطوقة"، ثم جاءت بعدنا أجيال لا تعرف من الأغنية سوى ثلاث دقائق، وإيقاع راقص.
لكن شيئًا ما، في تلك الألحان القديمة، يظل يمسك بنا حين نتعب.
حين نشتاق.
حين نحتاج إلى وطن صغير نختبئ فيه بعد نهار طويل من الغربة.
كنا نظن أننا سافرنا، وأننا بتنا بعيدين.
لكن الحقيقة؟
أقرب ما كنا إلى مصر هو عندما نُشغل تسجيلًا قديمًا، ونصمت.
كنا نبحث عن معنى جديد للبيت، فلا نجد إلا تردد "أمل حياتي" في مطبخ صغير، أو ضحكة مفاجئة على "الدنيا ربيع" في السيارة، فنطمئن... أن الذاكرة لا تزال تعمل، وأن قلوبنا لم تهاجر تمامًا.
ربما لم نحتفظ بكل شيء.
الأسطوانات خُزنت، والأشرطة تلاشت، والمقاعد تغيرت... لكننا صرنا نحن الحافظين دون أن نقصد.
صرنا نربي أولادنا على الإحساس، حتى لو لم نُسمه طربًا.
نقف فجأة في زحام العالم، عندما نسمع صدفة مطلع "سيرة الحب"، فنضحك ونحن نُخبر أبناءنا أن "ده صوت أم كلثوم... اسمع، اسمع دي"!
ثم جاء زمن لا نعرف فيه على من نغلق الشبابيك.
تغيرت البيوت، صمتت الصالات، كبرنا نحن... وانشغلنا.
لم تعد أم كلثوم تغني في المساء، ربما تُفتح أغنياتها على يوتيوب من أجل جملة واحدة يُعاد استخدامها في مقطع قصير.
لم يعد صوتها طقسًا، وإنما مادة أرشيفية.
صرنا نسمعها ونحن نقلب في شيء آخر.
لم يعد الشاي ثقيلًا كما كانت تصنعه أمهاتنا، ولا المروحة تئن كما كانت، ولا الراديو له مكان على الرف — والرف نفسه أُزيل.
حين غنت أم كلثوم، لم تكن وحدها التي تُغني...كانت مصر كلها تنصت معها، وتردد في صمت.
في صوتها... أم تهدهد طفلًا، دكان يُغلق على عجل، طفل يسترق السمع خلف باب المطبخ، وقلوب تُفتح على اتساعها لسماع صوت يلمنا.
صوت، وإن تفرقنا في الأرض، يظل يجمعنا.
أحيانًا، في لحظة لا سبب لها، تشتغل أغنية قديمة على الهاتف. ربما عن طريق الخطأ، أو لأن الخوارزميات ارتبكت.
لكن فجأة... يسكت العالم.
تدور الجملة اللحنية كأنها تعرف الطريق.
وفي اللاوعي، يعود كل شيء...
لا أحد يعلم كيف يمكن لصوت ناي قديم أن يهز شيئًا ما في الصدر، لا أحد يعرف كيف تُصبح الأغنية – تلك التي بدت "قديمة جدًا" – مأوى.
وما إن تنتهي الأغنية... حتى لا تعود كما كنت.
ربما لا يحدث هذا كثيرًا. وربما لا تعيره انتباهًا كافيًا.
لكنه يحدث.
ربما تغير الزمن، وربما كبرنا، وربما كبر أولادنا في عالم لا يعرف "يا مسهرني"، لكن شيءً من تلك النغمة القديمة، من ذلك التخت الذي جلسنا أمامه صغارًا، ما زال يعيش فينا.
وفي كل مرة تُباغتنا فيها أغنية من هناك…
نكتشف أن شيئًا لم يمت.
وأننا، رغم كل شيء، ما زلنا نُصغي.
وهنا، انتبهت إلى ساعتي... فقد اقترب موعد الندوة، وكان علي أن أترك ركني الهادئ وأتجه نحو القاعة. لكنني لم أنهض فورًا. بقيت لحظة إضافية، أرتشف آخر ما تبقى من فنجان القهوة، وأُصغي لصوتها — صوت الست — يُكمل الأغنية من حيث تركناه قبل نصف قرن، كما لو أنه لم يتوقف أبدًا.
الموسيقى لا تهاجر…
قد تختبئ قليلًا، لكنك إن ناديت عليها بقلبك... ستعود.