في مشهد إنساني مهيب يعكس عمق الروابط التاريخية والمصير المشترك بين شعبي وادي النيل، برز الدور المصري في الأزمة السودانية كنموذج فريد للتضامن الحقيقي، القائم على فهم استراتيجي وأخلاقي يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة. فمنذ اندلاع النزاع الداخلي في السودان، تحركت القاهرة بخطى ثابتة ومدروسة، واضعة الإنسان في قلب أولوياتها، والسودان في صميم أمنها القومي.
وبينما اكتفت بعض الدول بالمراقبة عن بعد، مدت مصر يدها للسودانيين، فاتحة أبوابها ومقدّمة أراضيها ملاذًا آمنًا، دون معسكرات ولا إقصاء، بل برؤية شاملة تتكامل فيها المساعدات الإنسانية مع التحركات السياسية في سبيل إحلال السلام.
عودة السودانيين.. لحظة إنسانية تعكس بداية جديدة
في تطور إيجابي وملموس، انطلق أول قطار مخصص لعودة الأشقاء السودانيين طوعًا إلى بلادهم، في مشهد ملؤه الأمل والتكاتف. أكثر من 800 سوداني تجمعوا في محطة مصر بالقاهرة استعدادًا للرحلة نحو الجنوب، حيث كان التنسيق دقيقًا، والتنظيم محكمًا، وسط تواجد أمني واهتمام من المشرفين المصريين والسودانيين.
القطار الذي وصل إلى محطة السد العالي شرق بمحافظة أسوان، ما هو إلا ثمرة لتعاون وثيق بين وزارات وهيئات مصرية عدة، وعلى رأسها وزارة النقل وهيئة السكة الحديد، لتأمين عبور الأشقاء بسلام عبر منفذ قسطل البري.
الرحلة لم تكن مجرد نقل، بل رسالة حقيقية عن الكرامة، حيث وُفرت الوجبات المجانية للمسافرين، سواء داخل القطار أو عبر الأتوبيسات التي تقلهم إلى وجهاتهم النهائية في السودان.
دعم يتجاوز الإغاثة.. رؤية شاملة للأمن المشترك
أكد اللواء نبيل السيد الخبير الاستراتيجي، أن الدور الذي لعبته مصر تجاه الأشقاء السودانيين منذ اندلاع الأزمة حتى بدء عودتهم إلى بلادهم لم يكن وليد اللحظة، بل كان نموذجًا نادرًا يجمع بين البعد الإنساني والرؤية الاستراتيجية العميقة.
ومنذ اللحظات الأولى للأزمة السودانية، لم تتعامل مصر مع الموقف كحدث عابر أو مجرد أزمة إنسانية، بل أدركت منذ البداية أن استقرار السودان هو جزء لا يتجزأ من أمنها القومي. ومن هذا المنطلق، تحركت القاهرة بخطى مدروسة، جمعت بين الإغاثة العاجلة والتحرك السياسي الفاعل.
مصر والسودان.. علاقة تاريخية تتجدد وقت الشدائد
أشار اللواء نبيل السيد إلى أن موقف مصر لم يكن يومًا بعيدة عن هموم السودان، لا على مستوى الدولة ولا الشعب.
وأوضح أن الدعم السياسي والإنساني واللوجستي الذي قدمته القاهرة يعكس تاريخًا طويلًا من العلاقات الراسخة، ومصيرًا مشتركًا لا يمكن فصله.
استضافة دون معسكرات.. كرامة الإنسان أولًا
واحدة من أبرز ملامح الموقف المصري تمثلت في استقبال أكثر من نصف مليون سوداني على أراضيها دون إقامة معسكرات لاجئين.
وفتحت مصر أبوابها وقدمت الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأساسية، في رسالة واضحة بأن الكرامة الإنسانية تأتي أولًا.
صوت عاقل للحل.. ودور محوري في المسارات السلمية
ولم تكتف القاهرة بالشق الإنساني، بل لعبت دورًا سياسيًا هادئًا ومتزنًا، سعت من خلاله إلى دعم كافة المبادرات الرامية لوقف إطلاق النار، دون الانحياز لأي طرف.
كما استضافت عدة اجتماعات لقوى المجتمع المدني السوداني، ما جعلها فاعلًا أساسيًا في جهود تحقيق السلام.
العودة ليست النهاية.. بل بداية لمرحلة البناء
وأكد اللواء نبيل أن عودة النازحين السودانيين تمثل بداية لمرحلة جديدة، تتطلب دعمًا مستمرًا في ملفات إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية.
وشدد على أن مصر، بخبراتها ووزنها الإقليمي، مؤهلة للقيام بدور ريادي في هذا الملف، بما يضمن استقرار السودان والمنطقة بأكملها.
التزام إنساني لا يعرف الحدود
شدد اللواء نبيل السيد على أن ما قدمته مصر للسودانيين ليس منّة أو مجاملة، بل التزام نابع من الروح الأخوية والإنسانية، مؤكّدًا أن أمن السودان من أمن مصر، وأن القاهرة ستبقى دائمًا بوابة العبور نحو السلام في الإقليم، لا سيما في لحظات الشدّة.
مصر ملاذ آمن في وقت الشدة
أكد اللواء محمد حمد، الخبير الاستراتيجي، أن مصر كانت من أوائل الدول التي استجابت لمعاناة السودانيين الهاربين من نيران الحرب، حيث استقبلتهم دون فرض أي قيود تعجيزية، وقدّمت لهم خدمات طبية وغذائية وسكنية، بعيدًا عن البيروقراطية أو الحسابات السياسية الضيقة.
أضاف أن مصر لم تتعامل مع الأزمة من منطلق الإيواء فقط، بل برؤية شاملة تعكس إحساسًا عميقًا بالمسؤولية الإقليمية.
بداية عودة السودانيين.. مؤشر إيجابي
أوضح اللواء حمد أن عودة السودانيين تدريجيًا إلى ديارهم تعكس تحسنًا نسبيًا في الأوضاع داخل السودان، وهو ما يشير إلى نجاح المساعي الإقليمية في تهدئة التوترات، وعلى رأسها الدور المصري.
أشار إلى أن مصر لعبت دورًا محوريًا، سواء على مستوى التواصل مع الأطراف السودانية المختلفة أو في دعم جهود الوساطة والمصالحة.
دور مصري فاعل في المحافل الدولية
اضاف حمد أن مصر لم تكتفِ بالدعم الإنساني، بل تحركت بفاعلية في المحافل الإقليمية والدولية لنصرة القضية السودانية، واضعة مصلحة السودان واستقراره على رأس أولوياتها. فقد حرصت القاهرة على الحفاظ على وحدة السودان وسلامة شعبه، انطلاقًا من قناعة بأن أمن السودان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمن مصر والمنطقة ككل.
مصر نموذج للدعم المتكامل
واختتم اللواء محمد حمد حديثه بالتأكيد على أن تعامل مصر مع الأزمة السودانية جسّد دورها كقوة إقليمية مسؤولة لا تتخلى عن أشقائها في المحن. واعتبر أن عودة السودانيين إلى وطنهم في هذا التوقيت تمثل اعترافًا غير مباشر بفضل الدول التي ساندتهم، وعلى رأسها مصر، التي مزجت بين الدعم الإنساني والبعد الاستراتيجي في إدارة الأزمة.
إن ما قدمته مصر خلال الأزمة السودانية، ليس فقط دعمًا في وقت الشدة، بل تجديد لموقعها الطبيعي كقوة إقليمية مسؤولة، تعرف جيدًا معنى التضامن، وتدرك أهمية الاستقرار في محيطها. عودة السودانيين إلى وطنهم تمثل لحظة انتصار للإنسانية، ومصر كانت في قلب هذا الانتصار، يدًا حانية، وصوتًا عاقلًا، ونموذجًا ملهمًا للدعم المتكامل.