قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. ثروت إمبابي يكتب: نحو الاكتفاء الذاتي من القمح باستخدام التكنولوجيا الحديثة

د. ثروت إمبابي
د. ثروت إمبابي

في عالم يموج بالأزمات المناخية والاقتصادية والصراعات الجيوسياسية، لم تعد قضية الاكتفاء الذاتي من القمح مجرد ملف زراعي، بل تحولت إلى قضية أمن قومي ترتبط بشكل مباشر باستقرار الدول واستقلال قرارها. ومصر، التي كانت لعقود طويلة ضمن أكبر مستوردي القمح عالميًا، بدأت الآن تتحرك بثبات نحو تحقيق اكتفاء ذاتي تدريجي، مستندة في ذلك إلى أدوات التكنولوجيا الحديثة، وإعادة هيكلة منظومة الزراعة والتخزين والإنتاج وفق أسس علمية وعملية مستدامة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا في حجم المساحات المنزرعة بالقمح، حيث بلغ إجمالي ما تمت زراعته في موسم 2024/2025 حوالي 3.6 مليون فدان، بزيادة واضحة عن الأعوام السابقة، وذلك بفضل السياسات التوسعية التي تبنتها الدولة في الأراضي الجديدة، خاصة في مشروع مستقبل مصر والدلتا الجديدة. هذه الجهود أثمرت عن تحقيق توريد محلي بلغ نحو 3.9 مليون طن، وهو ما يمثل أكثر من 55% من حجم الاستهلاك المحلي السنوي، وهي خطوة مهمة على طريق تقليل الاعتماد على الخارج.
لكن هذا التقدم لم يكن ممكنًا لولا توظيف أدوات التكنولوجيا الزراعية بشكل ممنهج. فقد ساعدت التقاوي المحسّنة وراثيًا، المقاومة للأمراض والمتحملة للجفاف، في زيادة الإنتاجية، كما ساهمت تقنيات الزراعة الذكية، مثل الاستشعار عن بعد والطائرات بدون طيار، في مراقبة نمو المحصول والتدخل السريع في حالات الخطر، فضلًا عن التحول إلى نظم الري الحديثة التي حسّنت كفاءة استخدام المياه، وهو ما يمثل عاملًا حاسمًا في نجاح زراعة القمح في بيئات مناخية ومائية صعبة.
ومع نمو الإنتاج، أدركت الدولة أن الحصاد وحده لا يكفي، وأن إدارة ما بعد الحصاد تُعد جزءًا أساسيًا في معادلة الاكتفاء الذاتي. ولهذا، تم تطوير منظومة التخزين بالكامل، حيث تم إنشاء صوامع معدنية حديثة مجهزة بأنظمة تبريد وتحكم في الرطوبة، مما خفّض نسبة الفاقد إلى أقل من 5%، مقارنة بنسب كانت تصل إلى 15% أو أكثر في السابق. كما ساعدت الرقمنة في تتبع عمليات التوريد والتخزين، وضمان الشفافية وتيسير وصول الدعم للمزارعين المستحقين، ما زاد من معدل المشاركة في منظومة التوريد الرسمية.
هذا التكامل بين التوسع الأفقي في الزراعة والتطور الرأسي في الإدارة والتخزين، رافقه دعم سياسي واقتصادي واضح، تمثل في رفع سعر توريد القمح المحلي بما يضمن هامش ربح مشجع للفلاح، وتكثيف الإرشاد الزراعي لنقل نتائج الأبحاث من المعامل إلى الحقول. كما أن الوعي المجتمعي بدور القمح في تحقيق الأمن الغذائي بدأ يتنامى، خاصة في ظل أزمات الغذاء العالمية التي أكدت أن من لا يزرع لا يملك قراره.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن المؤشرات الحالية تبشّر بإمكانية الوصول إلى اكتفاء ذاتي شبه كامل من القمح بحلول عام 2030، إذا ما تم الحفاظ على نفس وتيرة التوسع والإنتاج، حيث من المتوقع أن تتجاوز المساحات المنزرعة 4.5 مليون فدان، وأن يصل إجمالي الإنتاج المحلي إلى أكثر من 7 ملايين طن سنويًا، بما يغطي ما بين 80 إلى 90% من الاحتياج المحلي. ولتحقيق هذه الرؤية الطموحة، يجب أن تستمر الدولة في دعم مسارات الابتكار البحثي، وذلك من خلال تأسيس منصات بحثية تطبيقية تربط بين الجامعات والمراكز البحثية ووزارة الزراعة، وتركز على استنباط أصناف أكثر تحملاً للمناخ المتطرف والملوحة.
كما يُوصى بإطلاق برنامج وطني للتجارب الحقلية الموسعة بمشاركة المزارعين، لاختبار واعتماد أحدث تقنيات الزراعة الذكية، إلى جانب إنشاء بنك معلومات وطني للقمح، يشمل بيانات دقيقة عن الإنتاج والتخزين والأسعار، يُستخدم لدعم القرار الزراعي. ومن المهم أيضًا إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي والنماذج المناخية في التنبؤ بالإنتاج وتوجيه السياسات الزراعية، فضلًا عن تشجيع البحوث الاقتصادية التي تحلل سلوك المزارع وتوجهاته تجاه التوريد والتوسع.
إن طريق الاكتفاء الذاتي من القمح ليس سهلًا، لكنه ليس مستحيلًا. فالمعادلة أصبحت واضحة: الاستثمار في البحث والتقنية والبنية التحتية يقود إلى إنتاج آمن، والإنتاج الآمن يقود إلى سيادة غذائية واقتصاد مستقر. ومصر، بتاريخها الزراعي الطويل وإرادتها السياسية الراهنة، تملك من الإمكانيات ما يؤهلها لقيادة المنطقة في تحقيق هذا النموذج، الذي لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورة حتمية في عالم لا يرحم من لا يملك غذاءه.