لم يعد الحديث عن التكنولوجيا ترفاً أو شأناً يخص الدول المتقدمة فحسب؛ بل أصبحت التكنولوجيا اليوم جزءاً لا يتجزأ من حياة كل فرد في مجتمعاتنا العربية، من الهاتف المحمول في يد الطالب، إلى المنصات الرقمية التي يعتمد عليها الموظف في إنجاز أعماله، وصولاً إلى الحكومات التي تبنت التحول الرقمي لتيسير الخدمات. ومع ذلك، يبقى السؤال المطروح بإلحاح: هل نحن في العالم العربي نستخدم التكنولوجيا إستخداماً منتجاً يحقق النهضة والتنمية، أم أننا ما زلنا عالقين في مرحلة الإستهلاك والإنبهار بالتقنيات القادمة من الخارج؟
لقد شهد العالم العربي خلال العقدين الأخيرين تحولات جذرية في طريقة تعامله مع التكنولوجيا. فالتعليم، الذي كان يعتمد على التلقين والحضور في الفصول الدراسية، تحول بفضل التطور الرقمي إلى تجربة أكثر إنفتاحاً ومرونة. كما إنتشرت المنصات التعليمية العربية مثل "رواق" و"إدراك" و"منصة مدرستي"، وبدأت الجامعات في إعتماد نظم إدارة التعلم الإلكتروني، مما ساهم في توسيع فرص التعليم والوصول إلى المعرفة دون قيود جغرافية. جائحة كورونا، رغم قسوتها، كانت نقطة تحول محورية جعلت من التعليم الرقمي خياراً حتمياً لا بديلاً مؤقتاً.
وفي مجال الخدمات الحكومية، برزت نماذج عربية ملهمة في التحول الرقمي، مثل منصة "أبشر" في المملكة العربية السعودية، و"مصر الرقمية" التي فتحت الباب أمام ملايين المواطنين لإنجاز معاملاتهم دون الحاجة إلى طوابير المؤسسات الحكومية. هذه الخطوات لم تسهم فقط في رفع كفاءة الأداء الحكومي، بل عززت أيضاً من ثقة المواطن في قدرة مؤسسات بلاده على مواكبة التطور العالمي.
كذلك، أسهمت التكنولوجيا في فتح آفاق جديدة لريادة الأعمال، فشهدنا صعود شركات عربية ناشئة في مجالات الذكاء الإصطناعي والتجارة الإلكترونية والتكنولوجيا المالية. شباب عربي طموح بدأ يستخدم التكنولوجيا كأداة للابتكار والإنتاج، لا مجرد وسيلة للتسلية أو الترفيه. من القاهرة إلى دبي، ومن الرياض إلى الدار البيضاء، تتشكل خريطة جديدة لريادة الأعمال الرقمية تحمل في طياتها بذور مستقبل إقتصادي واعد.
لكن الصورة ليست وردية بالكامل. فما زالت المجتمعات العربية تواجه عدة تحديات تحول دون تحقيق الإستخدام الأمثل للتكنولوجيا. أول هذه التحديات هو الطابع الإستهلاكي الذي يطغى على تعاملنا مع الوسائل التقنية. فالغالبية تستخدم التكنولوجيا للتواصل الإجتماعي والترفيه، بينما يظل المحتوى العربي الرقمي الفعّال في مجالات العلم والمعرفة محدوداً. وحتى في ميادين العمل والإنتاج، غالباً ما نعتمد على حلول وتقنيات أجنبية بدلاً من تطوير أدواتنا وبرامجنا الخاصة.
ثم هناك الفجوة الرقمية بين المدن الكبرى والمناطق الريفية، حيث لا يزال الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة أو البنية التحتية الرقمية يمثل تحدياً حقيقياً في بعض الدول. هذا التفاوت لا يعني فقط حرمان بعض الفئات من مزايا التكنولوجيا، بل يكرّس فجوة إقتصادية وإجتماعية يصعب سدها دون سياسات واضحة للدمج الرقمي.
ويضاف إلى ذلك ضعف الثقافة الرقمية لدى شرائح واسعة من المستخدمين. فكثير من الناس لا يدركون خطورة نشر معلوماتهم الشخصية أو التعامل مع مصادر مجهولة على الإنترنت، مما يجعلهم عرضة للإختراق أو التضليل أو الوقوع في فخ الأخبار الزائفة.
التكنولوجيا ليست مجرد أدوات، بل منظومة فكرية وسلوكية تحتاج إلى وعي وتربية رقمية منذ المراحل التعليمية الأولى.
أما التحدي الأكبر فى وجهة نظرى فيكمن في الإعتماد المفرط على التكنولوجيا المستوردة. فالمجتمعات العربية، رغم تقدمها في مجالات الإستخدام، لا تزال متأخرة في الإنتاج التكنولوجي. معظم البرمجيات، والأنظمة، والأجهزة التي نعتمد عليها تأتي من الخارج، مما يجعلنا في موقع المستهلك لا المنتج، ويؤثر على إستقلالنا الرقمي وأمننا المعلوماتي.
من هنا، فإن الطريق إلى مستقبل رقمي عربي أكثر نضجاً يبدأ من التحول من ثقافة الإستهلاك إلى ثقافة الإنتاج. وهذا يتطلب إستثماراً حقيقياً في التعليم التقني والبحث العلمي، وتشجيع الشباب على الإبتكار وريادة الأعمال، ودعم المحتوى العربي الرقمي في مجالات المعرفة والعلوم والثقافة. كما ينبغي أن ترافق هذه الجهود سياسات وطنية واضحة لتعزيز الأمن السيبراني وحماية البيانات الشخصية.
لقد أثبتت التجربة أن التكنولوجيا ليست هدفاً في ذاتها، بل وسيلة للنهوض والتقدم إذا أُحسنَ إستخدامها. وإذا استطاعت المجتمعات العربية أن توظف طاقاتها البشرية الهائلة، وثرواتها الرقمية المتزايدة، في بناء بيئة تقنية منتجة ومستقلة، فإنها ستكون قادرة ليس فقط على اللحاق بركب الثورة الصناعية الرابعة، بل على أن تكون فاعلاً رئيسياً فيها.
دكتور /محمد عسكر
إستشارى نظم المعلومات والأمن السيبرانى