في تلك اللحظة التي علت فيها هتافات بروكلين، لم يكن مجرد فوز انتخابي. كان ذلك الصوت الذي شقّ صمت أميركا المتعبة من الوجوه المكررة، يعلن أن زمن “الملفات المغلقة” قد انتهى. زهران ممداني، ابن المهاجرين، رفع صوته وقال للعالم:
“ارفع صوت التلفزيون يا ترامب… أنا عارف إنك بتتفرج عليّا.”
لم يكن يتحدث إلى رجل بعينه، بل إلى منظومة كاملة ظنت أن أميركا ستظل إلى الأبد على صورة واحدة: بيضاء، رأسمالية، تخاف من المهاجر وتحتقر المختلف. تلك الجملة وحدها كانت زلزالًا سياسياً، لأن المتحدث ليس غاضبًا من الهامش، بل صاعد من داخله، ومسلّح بوعي جيل لم يعد يقبل أن يُدار المستقبل من كراسي الماضي.
في خطابٍ بدا كأنه عودة الروح لمدينة أنهكها المال والفساد، قال ممداني:
“لن أعدكم بمعجزات، لكن أعدكم أن هذه المدينة لن تنسى من بنوها.”
كلمات قليلة، لكنها كانت أقوى من أي برنامج انتخابي. لأنها لم تُكتب لتُرضي الصحف، بل لتوقظ الضمير الأميركي.
العالم كله استمع. الصحف الأوروبية عنونت صفحاتها: “صوت مسلم من نيويورك يعلن سقوط الخوف”. أما في واشنطن، فقد بدا القلق واضحًا: من هذا الذي يملك شجاعة مخاطبة ترامب بلغته؟ من أين أتى هذا الصوت الذي يجمع بين الوعي الاجتماعي والعقيدة الأخلاقية؟
ما لا يدركه كثيرون أن خطاب ممداني لا يخص نيويورك وحدها، بل يمسّ صورة أميركا في العالم. فحين يعلن سياسي من أصول أفريقية وهندية دعمه للفقراء والمهاجرين، فهو يزعزع الأساس الذي قامت عليه الإمبراطورية الأميركية — إمبراطورية تُعلي المال على الإنسان.
ولذلك، حين قال: “سنكسر دائرة الهيمنة… من أصحاب المليارات إلى من يعيشون بالحد الأدنى للأجور”، اهتزت وول ستريت أكثر مما تهتز الأسواق بالحروب.
أما في الشرق الأوسط، حيث يُقرأ كل صوت أميركي من زاوية السياسة الخارجية، فإن القاهرة تتابع بدهشة وحذر. فصعود ممداني يعني أن “الداخل الأميركي” لم يعد ثابتًا، وأن السياسة القادمة قد تُكتب بلغة أكثر إنسانية وأقل وصاية. مصر التي طالما قرأت العالم بذكاء، تعرف أن هذه التحولات لا تُترك دون تحليل.
فأميركا المنقسمة على نفسها لن تكون اللاعب المتحكم وحده، بل لاعبًا منشغلًا بإعادة ترتيب بيته الداخلي — وهنا تكمن فرصة الشرق للحديث بصوتٍ مستقلّ للمرة الأولى منذ عقود.
لكن خلف الأضواء، يلوح السؤال الأهم:
هل يستطيع ممداني أن يصمد أمام ماكينة الحزبين، والإعلام الموجّه، ولوبيات المال التي تحكم واشنطن في الخفاء؟ أم أن النظام الأميركي سيبتلع صوته كما ابتلع أصواتًا كثيرة قبله؟
ما بين الشعارات والواقع طريقٌ طويل، لكنه طريق بدأ بالفعل. لأن ما تغيّر ليس فقط اسم الفائز، بل نوع الوعي.
جيلٌ جديد من الأميركيين لم يعد يصدق أسطورة “الحلم الأميركي”، بل يريد أن يصنع واقعًا اسمه “العدالة الأميركية”. وهذا التحول وحده كفيل بإعادة رسم موازين القوة من داخل واشنطن إلى آخر حدود الشرق الأوسط.
اليوم، وبين ضجيج الانتخابات وصدى التصفيق في شوارع بروكلين، لا يسأل العالم من فاز أو خسر، بل:
من استطاع أن يجعل أميركا تسمع نفسها من جديد؟
وفي زمنٍ تتغير فيه الموازين، يبقى السؤال الحتمي الذي يجب أن يُكتب على جدران السياسة:
هل يُمكن لصوت ممداني أن يغيّر التاريخ… أم أن النظام الأميركي سيُخفض الصوت من جديد؟