قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د.محمد عسكر يكتب.. السوشيال ميديا.. وأبواق لا تعرف الصمت

د. محمد غسكر
د. محمد غسكر

لم تعد السوشيال ميديا مجرد منصات للتواصل الاجتماعي أو تبادل الأفكار، بل تحوّلت تدريجياً إلى ساحة صاخبة، تعج بالأصوات المتداخلة، حيث يتحدث الجميع عن كل شيء، في كل وقت، وبلا توقف. في هذا الفضاء الرقمي المفتوح، أصبح الصمت عملة نادرة، وأضحى الكلام – أي كلام – هو السبيل الأسرع للوجود، ولفت الانتباه، بل وأحياناً لفرض الذات.
في السابق، كان الرأي يكتسب قيمته من المعرفة والخبرة والقدرة على التحليل. أمّا اليوم، فقد بات الرأي متاحاً للجميع بضغطة زر، دون شروط أو ضوابط. لم يعد مطلوباً أن تعرف كي تتكلم، بل يكفي أن تشاهد مقطعاً قصيراً أو تقرأ عنواناً مثيراً، لتتحول فوراً إلى معلّق وناقد، وخبير في التكنولوجيا، ومحلل في السياسة والاقتصاد والثقافة والطب والفن.
هذه الوفرة غير المنضبطة في التعبير خلقت ما يمكن وصفه بـ ثقافة الضجيج الرقمي؛ حيث يعلو الصوت لا لعمق الفكرة، بل لحدّتها، ويُقاس التأثير بعدد الإعجابات والمشاركات، لا بصدق المضمون أو قيمته. وفي خضم هذا الضجيج، تختلط الحقيقة بالشائعة، والرأي بالمعلومة، والنقد بالإساءة، حتى بات من الصعب على المتلقي العادي التمييز بين ما هو جاد وما هو زائف.
السوشيال ميديا، في جوهرها، ليست شراً مطلقاً. فهي منحت الأفراد مساحة للتعبير بعد أن كانت الأصوات حبيسة المنابر التقليدية، وفتحت المجال أمام المهمشين ليحكوا قصصهم، وساهمت في كشف قضايا مسكوت عنها. لكن الإشكال الحقيقي يكمن في سوء الاستخدام، حين تتحول حرية التعبير إلى فوضى، والرأي إلى أداة هدم لا بناء.
الأخطر من ذلك أن هذه المنصات شجّعت على ما يمكن تسميته بـ هوس التعليق. أصبح الصمت يُفسَّر على أنه جهل أو ضعف أو تخلٍّ عن الموقف، بينما يُنظر إلى الكلام المستمر كدليل وعي وجرأة. وهكذا، يتسابق المستخدمون لإبداء آرائهم في كل حدث، حتى قبل أن تتضح الصورة أو تتوافر المعلومات، فيتحول النقاش العام إلى سباق انفعالي، تحكمه العاطفة أكثر مما يحكمه العقل.
كما أسهمت الخوارزميات في تكريس هذه الظاهرة؛ فهي تكافئ المحتوى الصاخب والمثير، وتدفعه إلى الواجهة، بينما تهمّش الطرح الهادئ المتزن. وبهذا، أصبح من يصرخ أعلى هو من يُسمَع أكثر، لا من يفكّر أعمق. فتحوّلت المنصات إلى أبواق متقابلة، كل منها يردد ما يريد سماعه، دون استعداد حقيقي للحوار أو الاستماع للآخر.
من الناحية الثقافية، يمكن القول إننا نعيش أزمة وعي رقمي. فحرية التعبير، كما تُمارس اليوم، غالباً ما تبتعد عن المسؤولية الأخلاقية ، مما يُفسح المجال لانزلاق الخطاب العام إلى مناطق من التجريح والتشهير ونشر المعلومات المضللة، تحت ذريعة حرية الرأي. يتم تداول الاتهامات، وإطلاق الأحكام، والتشهير بالأشخاص، تحت لافتة "هذا رأيي"، وكأن الرأي يمنح صاحبه حصانة مطلقة من المحاسبة. بينما الحقيقة أن الرأي، حين يُنشر في الفضاء العام، يصبح فعلاً مؤثراً، له تبعاته الاجتماعية والثقافية.
إن المشكلة ليست في كثرة الأصوات بحد ذاتها، بل في غياب ثقافة الاستماع، واحترام التخصص، والاعتراف بحدود المعرفة. فليس عيباً أن نصمت حين لا نعرف، ولا ضعفاً أن ننتظر قبل أن نحكم. بل لعل الصمت، في زمن الضجيج، أصبح موقفاً واعياً، ودليل نضج.
ختاماً، تبقى السوشيال ميديا مرآة تعكس واقعنا الثقافي أكثر مما تصنعه. فإذا امتلأت بالأبواق التي لا تعرف الصمت، فذلك لأننا لم نتعلم بعد متى نتكلم، ومتى نصغي، ومتى نختار أن نكون جزءاً من الحل لا من الضجيج. وربما آن الأوان أن نعيد تعريف قيمة الكلمة، وأن الحكمة تكمن أحياناً في الامتناع عن الكلام.