بداية لابد أن نطرح على حضراتكم هذا الطرح ، لماذا لم أقل في عنوان مقالتي في نشأة الفكر الفلسفي ، وقلت التفكير ، هذه واحدة ، أما الطرح الثاني ، لماذا بدأت المقالة بكلمتي قولنا في.؟!
سأعرض إجابتي من حيث انتهت تساؤلاتي ، قولنا في ، لأن هذا إشارة إلى قول صاحب المقال ، أي فكر صاحب العبارة ذاته ، وقد يكون رأيه صوابا فيحمد صنيعه وطرحه وقد يكون خاطئا فيتحمل تبعات خطئه من الانتقادات التي ستوجه إليه ويكون عليه الرد عليها.
أما قوله في نشأة التفكير الفلسفي وليس الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة وجهة نظر والتفلسف مكفول والتفكير الفلسفي مكفول للجميع ، ومن حق أي إنسان يتمتع بأهليته العقلية أن يتفكر ويقدم تصورا عن ذات الفكرة من عندياته.
قد يتبادر إلى الذهن المتذاكي أن السؤال متى نشأ التفكير الفلسفي سؤال غبي ، لكن سيزول هذا الغباء عندما تتجلى الإجابة عنه في أبهى صورها.
فإنه منذ أن وجد الإنسان على سطح البسيطة وميزه الله تعالى بنعمة العقل وشرفه بها وجعله ضابط إيقاعه ، يعرض عليه المشكلات والقضايا فيقوم بتحليلها ودرسها ثم يحاول أن يقدم إجابات عنها ، حتى وإن كانت إجابات منقوصة إلا إنه سيحاول وسيحاول مرارا وتكرارا أن يجد الجواب الناجع الشافي لهذه التساؤلات.
فمنذ أن خلق الله الإنسان وأودع داخله نعمة العقل ، فأصبح دأبه وديدنه الوصول إلى اليقين المعرفي ، فمنذ أن قتل الأخ أخاه ، وبدأ الصراع جليا بين الحق والباطل ، الخير والشر ، وحتى حينما أراد أن يدفنه راح يتفكر كيف سيفعل ذلك ، وهنا توقف العقل أمام هذا الخطب الجلل وعجز عن التفكير.
وهذا دليل دامغ على محدودية العقل ، فهناك أمور من الممكن أن تكون محلا للتفكير ويصل فيها المرء إلى إجابات ، وعلى الجانب الآخر يقف مندهشا مذهولا فيعاود الكرة ويتفكر.
إذن بدأ التفكير الفلسفي حتى وإن كان تفكيرا بدائيا مع وجود الإنسان ، وبالحتمية المنطقية من الذي سيتفكر ، الرد ، من وهبه الإله عقلا.
رد أرسطو نشأة التفلسف إلى طاليس في القرن الرابع ق.م. وتابعه في هذا الرأي برتراند راسل ، أما فيكتور كوزان فارتد بنشأة التفكير الفلسفي إلى سقراط ، إلا أن سانتهلير أرجع نشأة الفلسفة إلى المدارس اليونانية الأولى ، المدرسة الأيونية ، المدرسة الإيلية، المدرسة الفيثاغورية.
أما ديوجين فقد ألف فقد ألف كتابا ضمن فيه حياة مشاهير الفلاسفة فأرتد بنشأتها إلى الحضارات الشرقية القديمة.
وهذا رأي يعتد به ، لما لحضارات الشرق القديم من أهمية بالغة في تاريخ الفكر الإنساني ، فالحضارة المصرية القديمة لها باع طويل في التفكير سواء فى النواحي العملية أو النواحي النظرية ، أما النواحي العملية ، فمن الذي برع في فن التحنيط ، فن العمارة والفنون والزخارف ، بناء الأهرام ، علم الكيمياء والأصباغ ، معرفة مواسم الحصاد وفصول العام.
أما النواحي النظرية ، فكرة العدالة ، الإله ماعت ، فكرة الألوهية وتعدد الآلهة ، وحرية العبادة ، فكرة الخلود والبعث.
وشواهدنا على ذلك كثيرة ، ألم يزر سقراط مصر ، ألم يتعلم فيثاغوث في مصر ، ماذا قال هيرودوت عن مصر ، قال مصر هبة النيل ، صولون المشرع اليوناني ، من أن تعلم القوانين التي صاغ على إصرها قوانين إسبرطه.
أما بالنسبة للبناء الأخلاقي ، أليس لنا القدوة في حكيم الصين كونفوشيوس الذي تحدث عن الفضيلة وكيف يمكن الارتقاء بالمجتمع من خلال الأخلاق.
أليس لنا المثل في الحضارة الفارسية التي تحدثت عن فكرة ثنائية الإله ، إله للخير ، وإله للشر ، إله للنور وإله للظلام.
لكن على الجانب الآخر ، لابد أن نكون منصفين ، عندما نتحدث عن بناء الفكرة الفلسفية ، فبدايتها كانت فى الشرق وإعادة هيكلتها وتنميقها يرجع إلى بلاد اليونان ، وهذا للأمانة والدقة والموضوعية وشاهدي على ذلك استفادتنا إلى الآن من أفكار سقراط وحكمه ومواعظه الأخلاقية وكذلك أرسطو وأفلاطون والأفلاطونية المحدثة.
وهذا يجعلنا على وفاق مع ما ذكره أورسيل ، الذي أرجع نشأة التفكير الفلسفي إلى الأوراسيا ، أوروبا وآسيا ، وهنا نؤيده ، لماذا ، لأننا نؤمن بفكرة التأثير والتأثر دونما تقليد أعمى.
فنحن نتأثر بما كتبه فلاسفة اليونان وفي نفس الوقت لا ينبغي أن نسايرهم النعل بالنعل والخطوة بالخطوة وإنما لابد أن تكون لنا هويتنا المستقلة ونؤثر بدورنا في من سيأتي بعدنا ، فالفكر الإنساني سلسلة متصلة الحلقات.
وهذا ما أيده شيخنا الدكتور زكي نجيب محمود ، لا شرق عندنا ولا غرب ، وإنما عندنا الإنسان ، المكون الرئيس لبناء الحضارة ، فعندما يوجد الإنسان توجد للحضارة ، وعندما يتفكر هذا الإنسان تنمو الحضارة وتزدهر.
وبعد هذا الطرح التفكري ، هل زال غموض ولبس وغباء السؤال.؟!