قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

مصطفى الشيمي يكتب: غصن مكسور

مصطفى الشيمي
مصطفى الشيمي

في المساء، كانت سمر ، تسير في ممرّ المستشفى بخطى متوترة، تتبع أختها الكبرى سناء نحو عنبر الجراحة. حيث تختلط رائحة المطهّرات بأنينٍ متقطعٍ صادر من الغرف.

رأتا أباهما ممدّدًا على السرير، غارقًا في سكون ثقيل، وقد غُطِّيَت ساقُه حتى الركبة، و الضمادة البيضاء تُعلن خسارة لا رجعة فيها. و في السرير المجاور، كان مريضٌ آخر لا يتبقّى من ساقه إلا قليل، نظرته شاردة، تائهة تبحث عن شيءٍ فقده إلى الأبد.

السماء تتلوّن ببقايا النهار ،  والماء يلمع كأنه يتثاءب بعد نهارٍ طويل. خرجت الفتاتان من باب المستشفى تحملان كيسًا أسود، يتدلّى بين يديهما بحذرٍ مرتجف...لم تتحدثا في البداية ، تمضيان بخطى متردّدة، تتجنبان النظر إلى بعضهما وإلى ما بين أيديهما...خلفهما يسير أخوهما نادر، وجهه مطفأ، ساكن، لا يقول ولا يقترح، فقد تعلّم منذ الصغر أن الصمت أرحم من المشاركة.

تمتمت سناء بصوتٍ منخفض:
ــ استخرجتُ تصريح دفن الساق.

عقدت سمر حاجبيها بدهشة: "الساق لها تصريح؟" تساءلت كيف يمكن أن يكون لجزء مفقود قانون.

صمتٌ قصير، ثم قالت سناء:
ــ الطبيب قال إن علينا دفنها.

ردّت سمر:
ــ وأين؟ لا قبر لنا هنا... ولن نفتح له قبرًا من أجل رجِل.

توقّفت سمر عند الجسر، والهواء محمّل بصوت الأذان الممتد من بعيد. والماء ساكن كأنه ينتظر شيئًا.

وضعت سناء الكيس على الأرض بعد صراع مع ثقله، وكأن كل ما فيه يضغط على قلبها قبل أن يضغط على يديها : 
ــ أهو الماء... أطهر من التراب.

أجابت سمر وهي تشيح بوجهها:
ــ بل هو أسهل.

حلّت سناء عقدة الكيس. بدا ما بداخله ملفوفًا في قماشٍ أبيض، تبرز منه الساق كغصنٍ جافٍ انكسر من جسدٍ حيّ.

همست سمر بصوتٍ هادئٍ :
ــ صدّقيني، كان أيسرَ لو حملنا أبانا كلَّه. أمّا هذه الساق، فعبءٌ لا روحَ له.

رمقها نادر بنظرةٍ عاجزة. أدار وجهه إلى الجهة الأخرى وقال:
ــ افعلا ما شئتما.
رفعت سمر  الكيس، ثم ألقته من أعلى الجسر. تكوّر للحظة، ثم انفتح، وتسرّب القماش الأبيض بين الموجات كطائرٍ مذبوحٍ فقد جناحه.
لم يرتفع صوت، ولم تسقط دمعة. فقط صوت الماء حين يبتلع ما يُلقى إليه. ظلت سناء تتبعه بعينيها حتى ابتلعته الظلام . تمتمت بصوتٍ مبحوحٍ : 
ــ هل يشعر بنا الآن؟ أيدري بما فعلناه؟
ــ هل يشعرُ  أنّ ساقه فُقدت مرتين؟ مرّةً من جسده، ومرةً منّا؟

أما نادر فقد جلس على الرصيف، يشاهد الدخان يرتفع، متسائلًا أيّهما يسبق إلى السماء: الرماد أم الروح؟

حدثته  سمر بعد لحظةٍ من الصمت:
ــ غريب... كأننا نعيده إلى أصله.

سألها :
ــ أيّ أصل؟

أجابت:
ــ الطين، الماء، ما خُلق منه أول مرة. لكننا الآن نعيده ناقصًا، نقرّ أنّ الإنسان لا يعود كما كان أبدًا.
مشيت سمر  تنفض يديها، كأنها تتخلّص من أثرٍ عالقٍ لا يُرى. ، بينما تبعها نادر  بصمتٍ مطبّق، وسناء  تحاول اللحاق بها.

في المساء، ما تزال رائحة المستشفى تلتصق بملابسها ، مزيجٌ من مطهّرٍ بارد وعرقٍ قلقٍ لا يُغسل. جلست سمر أمام المرآة، حدّقت في قدميها الحافيتين، وتساءلت:

ــ كم من الأقدام تمشيَ نحو مصيرها و لا تعرف أنها ناقصة من الداخل.؟

رفعت بصرها فرأت ابنها الصغير في زاوية الغرفة، يحدّق فيها بعينين واسعتين لا تفهمان كل شيء، لكنهما لا تنسيان شيئًا. شعرت بأن نظراته تخترقها، فارتعشت. همهمة خافتة:
ــ ما أشدّ برودة هذا الجيل... نورّثهم القسوة كما نورّث الدم.

مدّت يدها إلى كتفه وقالت بصوتٍ يختنقه الخوف:
ــ آدم ... لا تفعل بي كما فعلتُ أنا بأبي..!

في المستشفى، فتح الأب عينيه، حدّق في السقف كمن يحاول تذكّر حلمٍ بعيد، ثم سأل الممرضة  بصوتٍ خافت : 
ــ أين أبنائي؟
قالت بعد تردّدٍ قصير:
ــ لم يأتِ أحدٌ بعد.
ظلّ صامتًا برهة، و بصوتٍ يئنّ قال :
ــ ساقي تؤلمني… تؤلمني جدا .

لم تُجِب الممرضة، تنحّت عنه وابتعدت هربًا من السؤال .

ابتسم ابتسامةً واهنة :
ــ إذًا ذهب الجزء... وبقى الكل.
رفع نظره إلى النافذة، حيث خيطُ الضوء يتسلّل من بين الستائر، وقال بصوتٍ مرتعش:
ــ غريب… حتى الماء لا يَرُدّ ما أخذ.

أومأ ببطء، وهمس كمن يعتذر لشيءٍ لا يُرى:
ــ لم أكن أبًا يسيرًا…
ثم أغمض عينيه، وارتسمت على وجهه ملامحُ راحةٍ غامضة، كمن وجد عذرًا لنفسه بعد فوات الأوان.

في مكانٍ بعيد، اقتربت موجة صغيرة من الشاطئ تحمل شيئًا أبيض، يتأرجح ثم يغوص ببطء، كأن الماء يحتفظ بسرٍّ جديد من أسرار البشر.