في عالم يشهد تغيرًا سريعًا في موازين القوى الاقتصادية، لم يعد امتلاك الموارد الطبيعية هو المحرك الأساسي للتقدم، بل أصبح الابتكار هو العملة الجديدة التي تتنافس عليها الدول، والركيزة التي تبني عليها الأمم مستقبلها. فاليوم تتراجع أهمية الأصول المادية التقليدية لصالح الأصول غير الملموسة مثل الأفكار والتقنيات والبرمجيات وبراءات الاختراع والعلامات التجارية، وهي الأصول التي تمثل أكثر من ثلث قيمة السلع عالميًا، وتتجاوز نسبتها في الشركات الكبرى 70% من قيمتها السوقية. وهذا التحول يعكس حقيقة واضحة مفادها أن من يمتلك المعرفة ويُحسن إدارتها هو من يمتلك القوة والقدرة على المنافسة.
الابتكار لم يعد رفاهية أو نشاطًا إضافيًا داخل المؤسسات، بل ضرورة وجودية لأي اقتصاد يريد الاستمرار في النمو. وهو ليس مجرد اختراع أو منتج جديد، بل طريقة تفكير مختلفة، وقدرة على إيجاد حلول عملية ترفع جودة الحياة وتزيد كفاءة الإنتاج وتفتح آفاقًا جديدة للتنمية. فقد يكون الابتكار تطويرًا في أسلوب التشغيل داخل المصانع، أو تحسينًا في تقديم الخدمات، أو اكتشافًا لطريقة تقلل التكلفة وتزيد الإنتاجية.
لكن الابتكار لا يزدهر في فراغ، ولا يتحول إلى قيمة اقتصادية دون وجود منظومة قوية للملكية الفكرية تحمي المبدعين وتمنح المستثمرين الثقة. فبراءات الاختراع ليست مجرد وثائق رسمية، بل شهادة على وجود فكرة قابلة للتحول إلى قيمة مضافة، سواء عبر منتج جديد، أو تقنية تدعم السياسات الصناعية والصحية والزراعية والتعليمية. والعلامات التجارية لم تعد مجرد اسم أو شعار، بل أصبحت قيمة اقتصادية ضخمة تمثل في بعض الشركات العالمية ما يقرب من 15% من قيمتها، كما أن شركات مثل «إنفيديا» تعتمد في قيمتها التي تجاوزت أربعة تريليونات دولار على الإبداع التقني لا على أي مورد مادي.
والدول التي حققت قفزات تنموية كبرى لم يكن سرها في وفرة الموارد، بل في الاستثمار الجاد في البحث العلمي وبناء منظومة تعليمية تشجع التفكير النقدي والإبداعي، وفي ربط الجامعات بالصناعة وتشجيع القطاع الخاص على تمويل الابتكار وتعزيز ثقافة احترام الحقوق الفكرية. فالهند على سبيل المثال أصبحت من أهم الدول المصدّرة للعقول والخبرات التكنولوجية لأنها أدركت مبكرًا أن المستقبل للمعرفة. أما الصين فقفزت عشرات المراكز في مؤشرات الابتكار بعد أن رفعت إنفاقها على البحث والتطوير لأكثر من 18 ضعفًا خلال عشرين عامًا. والإمارات أصبحت الأعلى عربيًا لأنها قررت أن الابتكار مشروع دولة لا مشروع مؤسسة.
وعندما نلتفت إلى مصر نجد أن لديها مقومات كبيرة يمكن أن تجعلها لاعبًا مهمًا في ساحة الابتكار الإقليمي والدولي: قاعدة بشرية ضخمة، نسبة مرتفعة من الشباب، مؤسسات أكاديمية فعّالة، تطور في التصنيفات العالمية للجامعات، ووعي رسمي متنامٍ بأهمية التحول إلى اقتصاد معرفي. وصدرت بالفعل استراتيجيات وطنية واضحة لدعم البحث العلمي وتعزيز البيئة التشريعية وتطوير منظومة الملكية الفكرية وتحسين ترتيب مصر في مؤشرات الابتكار. لكن الطريق لا يزال يحتاج إلى خطوات جادة، لأن الابتكار لا يزدهر إلا بوجود الحوافز والتشريعات والتمويل والوعي المجتمعي.
ولا يمكن تجاهل أن اقتصادنا استمر لسنوات طويلة موجّهًا من خلال ملكية الدولة لمصادر الإنتاج، مما خلق نمطًا اقتصاديًا قائمًا على الدور المركزي للحكومة. ومع تغير الظروف وزيادة عدد الوحدات الإنتاجية الخاصة، أصبح المشهد مختلفًا، لكن كثيرًا من هذه الوحدات لا يزال يفضل الربح القريب ويتجنب المخاطرة المرتبطة بالاستثمار في البحث والتطوير. ولهذا تبدو الحاجة واضحة ليتصدر القطاع الاقتصادي العام المبادرة في تبني الأبحاث والابتكارات الجديدة متى ثبتت جدواها، ليقود التحول ويمنح القطاع الخاص نموذجًا عمليًا للاقتداء. وتبرز هنا فرص كبيرة في الابتكار بقطاع البناء عبر مواد وتقنيات أكثر استدامة، وفي قطاع الزراعة البيئية الذي يقدم حلولًا لزيادة الإنتاج وتقليل الاعتماد على الكيماويات، وهي مسارات قادرة على خلق قيمة تنموية ضخمة إذا ما تم دمجها في السياسات العامة.
ويبقى أحد أكبر التحديات في مصر هو ضعف الارتباط بين البحث العلمي والصناعة، إذ لا يزال الكثير من المخرجات العلمية غير مستغل رغم إمكانية تحويلها إلى منتجات وخدمات توفر فرص عمل وتدعم الاقتصاد. كما أن مشاركة القطاع الخاص في تمويل البحوث ما زالت محدودة مقارنة بالدول المتقدمة. وهناك ضرورة لزيادة الإنفاق على البحث والتطوير، وتعزيز الحوافز للباحثين، وتسريع إجراءات تسجيل البراءات وضمان إنفاذها بما يحمي حقوق المبدعين ويعزز الثقة في السوق.
ومع كل هذه التحديات، فإن الفرصة ما زالت مكتملة أمام مصر لتتقدم خطوات واسعة إذا نجحنا في تحويل الابتكار إلى ثقافة وطنية، وفي جعل الملكية الفكرية جزءًا أصيلًا من السياسات الاقتصادية، وفي تشجيع الشباب على الإبداع، وفي تحويل الجامعات إلى محركات إنتاج معرفة، وفي دفع الشركات نحو الاستثمار في الأفكار بدل البنية التقليدية. فالمستقبل لا ينتظر من يتأخر، والاقتصاد العالمي لا يرحم من يقف في مكانه، والعالم اليوم لا يقدّر إلا من يملك القدرة على الإبداع وإنتاج المعرفة. ومصر تمتلك ما يكفي لتصبح نموذجًا عربيًا في الابتكار إذا توفرت الإرادة واستمر البناء على ما تحقق، وانطلقنا بثقة نحو اقتصاد يقوده العقل قبل الموارد.